تعودت كلما أمضني التعب أو الطفش أن أقرأ رواية. في الرواية حسب رأيي يجد المرء بعض التسلية وبعض المتعة وكثيراً من الفائدة القلبية. فهي أفضل مكان تنعزل فيه عن العالم وحتى عن نفسك. وميزة الرواية أنها كتاب لا وطن له فهي تكتب في طوكيو وتقرأ في الرياض وفي نيويورك وفي سدني.. من هنا تفارق الشعر الذي يعاني من ارتباطه بتفاصيل اللغة. وما يسقط منها بسبب الترجمة يعوضه القارئ بقليل من التخيل. وهذا ما جعل مؤلفو الرواية أشهر من الشعراء وغيرهم من الكتاب. نعرف عشرات من الروائيين الأمريكان وقليلاً من الشعراء، نعرف كثيراً من الروائيين اليابانيين وقليلاً من الشعراء.
الروايات كتب تطوف العالم تحمل معها كل هموم الإنسان وأحلامه وخيباته. والأخيرة هي أقرب وصف لما يجري في الروايات العظيمة. كل الكتب التي تجول العالم تصارع من أجل أن تضع العالم في صورة نقية زاهية أو تقدم وعودا إلا الرواية. فهي صورة حزينة لوجود الإنسان على هذه الأرض. حتى وإن كتبت عن أبطال غيروا التاريخ تعود وتضع هؤلاء الأشخاص أمام مصيرهم الحقيقي وهو الضعف والانكسار ثم الموت. تخفض درجة المصائر من الفكرة إلى الحياة. من الخلود الزائف الذي يحاول أن يضع الإنسان نفسه فيه إلى الزوال الحتمي.
منذ اللحظة التي تدخل فيها رواية تدخل في حياة نسيجها التعب والعبث والبحث عن شيء لا وجود له أبداً، كأنها بحث في سجن الإنسان في هذا الكون ودوران في أركانه.
لم ينجح العرب كثيراً في كتابة الرواية. لم تتميز عندنا الرواية عن الحكاية وكتب السياسة. قليل من الروايات العربية التي تستطيع البقاء بمفردها ككتاب نسيج وحده. معظم الروايات العربية كتبت لتكون تعبيرا عن شيء خارجها. لا يمكن فهمها واستيعابها خارج القضية التي تعالجها. لم تصعد إلى الحالة الوجودية.
في عام 93 نشرت روايات عبدالرحمن منيف بالإنجليزية وصادف أن قرأت عرضاً لها في ملحق (عرض الكتب) في جريدة النيويورك تايمز. بعد ان انتهى الكاتب من جولة في داخل الروايات قال كلمة كنت أبحث عنها كلما قرأت رواية لعبدالرحمن منيف. إنها روايات تفتقر ل(irony) السخرية. تأملت كثيرا في هذه الكلمة في دلالاتها ليس في كتب منيف وإنما في كثير من الروايات العربية. الكلمة ليست من اختراع كاتب النيويورك تايمز ولكنها جزء من مصطلح الرواية. عندما تقرأ رواية عربية تجد أنها تحيل إلى غيرها تحيل إلى أحداث خارجية. تفترض أن القارئ يعرفها ولا يمكن ان تتم متعة القارئ إلا إذا كان يعرف تلك الأحداث وفي كثير من الأحيان لابد ان تقرأ على خلفية من التعاطف. فكتب منيف مثلا لا يمكن أن تقرأ إلا بحس سياسي متعاطف مع اطروحات معينة في السياسة العربية. فمنيف عبر عن مواقفه السياسية لا الوجودية. لم يتصارع مع كينونته وإنما مع خصومه السياسيين. فهي كتب مواقف سياسية مصيرها مربوط بالمواقف السياسية التي تتخذها. لا يمكن أن تنجح كتب مثل هذه خارج منطقة صراعاتها. فالقارئ الذي لا يعرف تاريخ المنطقة وهمومها السياسية ولم يتخذ منها موقفا لا يمكن أن يصل إلى ذروة الرواية. لأن الألم الذي يلم بأبطالها ألم يمكن حله عبر حل القضية السياسية التي يناضل من أجلها منيف وكل المتعاطفين معه. لكن الذي يقرأ روايات مثل روايات ديستوفسكي أو ماركيز أو جون فولز أو كوتزييه لن يجد أي فرصة لنجاة أبطال الرواية عبر حلول خارجية. إنهم متورطون في داخل النص الذي خلقوا فيه. لا تنقذهم السياسة ولا المجتمع. إن أزمتهم التي يقاتلون من أجلها أزمة فوق قدرتهم الإنسانية. لذا فالرواية هي تاريخ من لا تاريخ لهم وليست تاريخ السياسة.
فاكس 4702164
|