عشت مع كتاب (الحداثة في المملكة العربية السعودية) وقتا ممتعا، ولعل هذا الكتاب من الكتب القليلة التي تقرأ دون جلسات استراحة، فالكتاب جمع بين الدرس والتشويق، الذاتية والموضوعية، الألم والسعادة، وتفصيل ذلك يطول، إضافة إلى انني غير مؤهل لتقديم دراسة حول هذا الموضوع، أو الطرح، الذي قدمه السني مشاكس، يذكرنا ببحارة زمان، الذين كانوا يواجهون الأهوال في البحار، ومع ذلك فهم لا يطيقون بعدا عنها، لكأنهم عقدوا صداقة مع البحر واسماكه، رغم تقلب البحر وتقلب مزاج الأسماك، التي اعتادت أن تأكل بعضها، واعتاد بعضها أن يأكل زواره من البحارة والصيادين، والصفتان تنطبقان على الدكتور عبدالله الغذامي!
لقد قدم لنا الغذامي عرضا ممعتا عن بدايات او مؤشرات الحداثة في المملكة، انطلاقا من (الهجر) وهي فكرة وتوجه حضاري اختص به الملك عبدالعزيز، ولا تصلح هذه الفكرة الا لبلد كبلادنا، كان الداخل اليها مفقودا، والخارج منها مولودا، وكان الحل الوحيد لتقليص هذه المخاطر توطين البادية وتأمين ما يشغلهم، اما الفكرة الأكبر او الطموح الأكبر فهو توحيد هذه البلاد بكل ما فيها من تنوع في المذاهب والتطلعات والبيئات والتضاريس والثروات والثقافات، وهو توحيد لم يتحقق فجأة او بضربة معلم - كما يقولون - لكنه احتاج عملا متواصلا وعزيمة جبارة، فليس سهلا أن تجعل من هذه الصحراء المترامية، بما فيها من بحار وجبال وطباع نسخة واحدة، تحت راية واحدة، هذه هي قمة الحداثة التي تسعى لها الدول وما تزال، واقربها الينا الوحدة الأوروبية ووحدة شطري ألمانيا، وبين هذا وذاك منظمة الجات التي ستحول جميع الدول إلى دولة واحدة تتحرك فيها السلع والأفكار والناس دون عوائق من أحد!
اما ريادة الحداثة الفكرية فقد عقدها الغذامي لثلاثة أشخاص (محمد سرور الصبان، وحمزة شحاتة، ومحمد حسن عواد) فقد أسس هؤلاء لحركة الطبع والنشر، ولشحذ الهمم بغية وصول المملكة إلى ما وصلت اليه الدول الناهضة، وهي طموحات جامحة كلفت اصحابها الكثير من العنت، من قوى محافظة دينياً وثقافيا واجتماعياً، حتى ان شاعرا كبيرا مثل حمزة شحاتة اصيب باحباط من عدم مقدرته على إحداث تغيير فاعل وحر في مجتمعه، فترك البلد مهاجرا الى مصر، حيث تفرغ هناك لتربية بناته، فما دام لم ينجح في إحداث نقلة ثقافية او اجتماعية او حضارية في بلاده، فعلى الأقل عليه غرس ذلك في ابنائه او بناته، حتى مات بصمت دون سؤال من مجتمعه الذي حاول إنهاضه، ونفس الحال كان مع محمد حسن عواد الذي قدم افكارا نيرة وجريئة لإصلاح حال البلاد والعباد، وبلغ تطرفه وحبه لابناء بلده وبلاده حدا عاطفيا، وكان له اولويات مثل تأسيس دار نشر وجمعية للرفق بالحيوان، وقبله كتابة ما سمي بالشعر الحر او المنثور، وكان رجلا طيبا ونقيا وشرسا في الوقت نفسه، أما محمد سرور الصبان فقد كان هذا الرائد عاملا مساعدا ماديا وثقافيا للعديد من كتّاب ورجالات ذلك العهد، ومع ذلك فإن هؤلاء لم يقولوا الكلمة التي يجب أن تقال في فارس مثل محمد سرور الصبان!.
هذا الجزء من كتاب الغذامي اعتبره لب الكتاب، اما بقيته الذاتية، فقد أدخلت الغذامي إلى عش الدبابير، وهؤلاء الدبابير هم رفاقه الذين لم يسلم من لسعهم في الجامعة والصحافة والكتب، وبين هؤلاء وذاك في الحياة العامة، حتى هددوه في رزقه وسمعته ومكانته العلمية والأكاديمية!
وهذا يقودنا إلى القول أن الأخوان ايضا يضمرون الغيرة، فما بالك بأبناء الكار الواحد، ما يجعلنا نقبل رأي من يقول بأن هناك شلة حداثية واخرى تقليدية او كلاسيكية، الحقيقة إن في كل فئة شلل، وكل شلة تضرب اختها باليد والقلم او الشلوت، ومحظوظ الذي يبقى صامدا بعد ذلك، وفي حالة الغذامي فانه مثل طائر الفينيق كلما ظننته مات رجعت إليه الروح أكثر شبابا وحيوية وقدرة على النزال، وهو في هذه الحال من حقه أن يكون نرجسيا وذاتيا، وهي صفة من صفات الفنانين من بيكاسو وسلفادور ادالي الى اللورد بيرون ويوسف ادريس ومحمد عبدالوهاب، وقد اعطتنا نرجسيتهم فنا راقيا وجميلا، فلماذا نستكثر على الغذامي ذلك؟..
هذه كلمة حق يجب أن اقولها لكاتب امتعني باختلافي معه واتفاقي ايضا.. فقد وجدت في معاناته الذاتية العذبة بعضا من معاناتي التي جعلتني اودع العمل في الدولة والقطاع الخاص دفعة واحدة، ليس لان سلوكي الوظيفي كان سيئا، ولكن لأن بعض الزملاء والأصدقاء ارادوه كذلك!!
|