Tuesday 13th April,200411520العددالثلاثاء 23 ,صفر 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

صحة وسعادة صحة وسعادة
المريض الطبيب
د. عبدالعزيز العثمان (*)

وهو على سرير الغسيل الكلوي (الديلزة الدموية) سلمت عليه، لم أتأكد من أنه رد السلام، عذرته فأنا أعلم كيف يعاني من يصاب بالفشل الكلوي.
هو في الثانية والثلاثين من العمر، ضعيف البنية، نظراته توحي بفقد الأمل في كل شيء، حاولت أن أداعبه وأخفف عنه برفع معنوياته وتطمينه، حاول أن يرسم ابتسامة يرد بها على مبادرتي، لكنه لم يستطع، قال تطمئنني!.. لأي شيء.. أنا أعرف أن حياتي أصبحت بدون معنى، أذكر قبل خمس سنوات وقبل أن أصاب بهذا المرض أنه كان لي أحلام عريضة لا تنتهي وطموح يبلغ عنان السماء، أنا لا أعترض على قضاء الله وقدره بل أحمده على السراء والضراء، لكني أحاول التشبث بأي أمل ولم أجد، انتقل إلى دمي فيروس الكبد الوبائي أثناء استخدامي لإحدى أجهزة الغسيل قبل سنتين، زرعت كلية في الخارج كلفتني الكثير من الجهد والمال، بعد أن تعبت من ترددي على وحدة الغسيل هنا، ولكن الزراعة فشلت بعد عدة أشهر، عدت ثانية للغسيل ثلاث مرات في الأسبوع وسجلت من جديد في قائمة انتظار الزراعة.
يسافر الناس، ولا أستطيع أن أبتعد عن الرياض إلا بشق الأنفس وبترتيب مسبق مع المستشفى الآخر، بينما كل الناس لا يفكرون فيما نعاني منه فهم يذهبون ويسافرون لأي مكان يريدون لا يسهرهم الألم، ولا ترتيب المستشفيات.
كلماته أيقظتني.. نقلتني إلى مكان آخر وعالم آخر.. استعرضت فيه شريط حياتي المليء بالحرية والمرح والفتوة، هاه لم أسأل نفسي طوال الوقت الماضي عن تلك النعمة التي أعيشها وأحمد الله عليها، تذكرت كيف أمرح وألهو دون أن ينغص حياتي شيء، تذكرت كيف أثرت بي كلمات بسيطة لم تعجبني سمعتها من أحد الأصدقاء، ظننت حينها أني أحمل هموم الدنيا كلها، واعتقدت أن ألم تلك الكلمات لا يطاق، تذكرت يوم جرحت قدمي وكيف تألمت حين قام الطبيب بتنظيف الجرح، تذكرت حين سقطت على الأصبع الأصغر في يدي اليمنى فلم أستطع أن أقوم بكثير من الأعمال، ولم أعرف أهميته إلا ذلك اليوم.. أوقفت شريط الذكريات بصعوبة فقد خشيت أن يلاحظ شرودي وعدم تركيزي معه.. واصل حديثه.. قال كما أنك تعلم كيف نعاني من سوء الحالة النفسية قبل الغسيل لتراكم المواد الضارة في الدم، وكيف نعاني أثناء الغسيل وبعده من الدوخة والتخدر، دكتور أريد أن أسالك.. ثم توقف، وكأنه ندم على الاسترسال.. شجعته بأن يكمل.. تفضل أكمل أنا معك.. قال بالله عليك من سيزوجني؟، ومن سترضى بزوج في مثل حالي؟.. نظرت إلى طلابي الواقفين حول السرير الذين ألجمهم الموقف، ولم يستطيعوا الوقوف أو النظر إليه وهو يتكلم وكأني بكل واحد منهم يستعرض شريط ذكرياته كما فعلت.
قلت في نفسي كنا نظن أننا أتينا للمساعدة في علاجك، وإذا بك تعالج أمراضاً مزمنة لدينا لم يشخصها أحد قبلك، يالك من طبيب ماهر عالجتنا، وأنت على السرير الأبيض مكبلا بالأنابيب الكثيرة، وهاهو الدم يخرج من جسمك النحيل ويدخل في ذلك الجهاز الكبير في حجمه الذي لا يستطيع أن يؤدي ربع كفاءة الكلية الواحدة التي لا يتعدى حجمها قبضة اليد، فسبحان من خلقها، ثم يعود الدم، وقد خف منه بعض السموم لكنه لم يتخلص منها كلية.. حاولت أن ألطف الجو بتصنع ابتسامة، لكنني فشلت، حتى الابتسامة لم أستطع أن أرسمها وكنت أظن أن التظاهر بها أمر يسير، تخيلت ضعفي الشديد أمام هذا الشاب..
ولكن كيف أقنعه وأخفف من آلامه، وأنا عاجز عن تخفيف آلامي التي فطنت لها قبل قليل.. تذكرت بعض الآيات وبعض الأحاديث التى تذكر بالأجر عند الصبر وتفتح باب الأمل، ذكرت له بعض الحوادث وبعض المصابين في أمراض أخرى أشد من مرضه، ذكرت له كيف يكون حال الشخص المبتلى ببعض الأمراض النفسية، وكيف أن كثيرا من الناس يعتقد أن مشكلته هي أكبر مشكلة في هذا الكون.
أوضحت له كيف أن كثيرا من الناس شفي تماما من الفشل الكلوي بعد الزراعة وعاش حياته سعيداً كأي شخص آخر تماماً.
أوضحت له من خلال ملفه الطبي كيف أن تحاليل الدم لديه ممتازة، وأن هناك من يعاني من أكثر من مرض في نفس الوقت، حاولت أن أجمع بعض الكلمات وبعض الأبيات المرحة.. ناداني المريض الذي بجانبه، وكأنه سمع بعض الحوار، طلب الحديث، استمعنا لحديثه الشائق، ذكر قصة مرضه وهاهو في الخمسين من العمر، ولكنه بروح الشباب، وذكر أمثلة على صعوبات واجهها أكبر من هذا المرض.
كان حديثه بلسما شافيا لنا جميعا، عندما تحدث خيل إلي أنه يصب الكلمات في قلبي فهي تنساب بعذوبة لما تحمله من صدق.. التفت إلى صاحبي وإذا بوجهه يتهلل من السعادة، قلت في نفسي سبحان الله، لم يتغير شيء، كيف يمكن أن نحزن ثم نسعد بعدها بلحظات، إذا لماذا نحزن ونكتئب؟.. لا أدري.
هممت بالانصراف مع طلابي وصافحت الشاب، وإذا به يمسك بيدي وكأن سيلا من العواطف ينتقل من خلالها إلى قلبي وأنا أبادله بالمثل.. أشعر بها وأشعر بلغة عينيه، وكنت أتمنى أن يقول شيئا لكنه لم يزد عن قوله جزاكم الله خيراً، بعدها لم تسعني الدنيا من الفرح، قال لي أحد طلابي، كان درس اليوم يادكتور مفيد جدا، قلت نعم للجميع، خرجت من المستشفى، وأنا في منتهى السعادة بل عشتها لعدة أيام، وماكنت أدري أن أثر علاجه يستمر إلى ذلك الحد، فنسيت كل لحظات التعب، وحمدت الله أولا وأخيراً على نعمته.

(*) استشاري التغذية الاكلينيكية
فاكس 4355010 تحويلة 386


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved