Tuesday 13th April,200411520العددالثلاثاء 23 ,صفر 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

هوامش على ( ملتقى قراءة النص)..! هوامش على ( ملتقى قراءة النص)..!
د. حسن بن فهد الهويمل

قد يجتالني شيطان الغرور، فأقول عن نفسي ما قاله المصاب بجنون العظمة:- ما حطَّ من سفر إلا الى السفر، فكأنه موكل بفضاء الأرض يذرعه. وأحسب أنه ليس مهماً متابعة المرء للأسفار، ولا تعدد المهمات التي يُندب لها، أو يُدعى إليها، ولا المناصب التي يتبوأ غرفها، وإنما المهم ما يتركه من أثر حسن في كل مهمة ينهض بها، أو موقع يحل به، قلّ ذلك أو كثر، وما أكثر الذين تكشف المسؤوليات سوءاتهم، وما أكثر الذين يطيلون الكلام، ثم لا يقولون شيئاً، وما أكثر الذين يطوفون ابتغاء النجاة من الهلاك فيهلكون كما ( تأبط شراً)، وما أكثر الذين يقترفون إصدار الكتب التي لا تساوي المداد والورق، وما أكثر الذين يتمطون بتثاقل على أنهر الصحف ثم لا يقرؤهم إلا المجيز والمصحح والطابع، ومهما خبَّ الإنسان أو وضع، ومهما طار وارتفع، فإنه عائد الى الارض التي انطلق منها، و(حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه)، حتى ولو كانت ( العضباء) ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. و:-(ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع)
فكل إنسان له حد ينتهي إليه، ولقد قالت الأعراب:-( ما رأيت علة كطول سلامة)، فالمعافى من الأمراض يرقبه على مشارف الطريق أرذل العمر، وساعتها لا يعلم من بعد علم شيئاً، والحكمة الربانية بادرت الأنبياء والرسل بالموت، وهم في أوج عطائهم، لئلا تتحول هيبتهم، وتختلط أقوالهم. والذين على شيء من أصول علم ( الحديث) تمر بهم مصطلحات ك ( الاختلاط) فالثقات حين تتقدم بهم السن، ثم يروون أحاديث في أرذل العمر، يتحفظ عليها أصحاب السنن والمسانيد والصحاح، لتكون دون الصحيح، مع أنهم فيما رووه في أشدهم يعد صحيحاً، ومن ثم يقال :- فلان ثقة فيما رواه قبل أن يختلط، وما دام أن كل إنسان سيرد هذا المورد، فإن على الكيِّس أن يعيد ترتيب أموره، قبل أن يقع في أوحال الشيخوخة، وبالذات ( أهل الدثور)، ممن يرقب وارثهم عجزهم أو اختلاطهم، ليحجر عليهم، والحجر حبس، يكون فيه المالك مسلوب الحرية، لا يختلف عن نزلاء دار العجزة، تحدد وجباته ونفقاته، وما أكثر المسوِّفين من المقتدرين ورجال الأعمال الذين إذا حضرتهم الشيخوخة قال مفرطهم:- ياليتني أرد فأتسلط على مالي أنفقه في سبيل الله، ولكنها كلمة هو قائلها، ومن ورائه ندامة ( الكسعي).
لقد تداعت هذه الهواجس المخيفة يوم أن خالطت البعض في أشدهم، ثم رأيتهم بعد أمة على أعتاب الشيخوخة، فرأيت خلقاً آخر، وسبحان المغير الذي لا يتغير، ومتى تقدمت بالمرء السنون فإن حاله تختلف، وانطباعاته تختلف، ومواقفه تختلف، ورؤاه تختلف، والذين لقيتهم في خريف العمر، وهنت عظامهم، واشتعلت رؤوسهم شيباً، ينظرون الى الحياة بعيون مودع، ومشاعر المودع تختلف عن مشاعر المستقبل، وكم كنا نستقبل صرخة المولود بالضحكات، ونودع أنين المحتضر بالتنهدات، وما من حي إلا وله موعد مع الأنين، فماذا أعددنا لهذه اللحظات الحرجة؟!
عفا الله عن ( أبي عثمان الجاحظ) أمير البيان وشيخ الاعتزال، فلقد شوَّق لي الاستطراد، وحبب لي تداعي الأفكار، وقذف في قلبي حب السبحات في آفاق المعرفة والتأمل في أحوال الناس من خلال تحولاتهم، فما عدت أستنكف من ذلك، وإن رآه المنهجيون إخلالاً في الخطة وخطوات الكتابة، ثم إن لهذه الموعظة الحسنة دواعيها.
لقد جئت الى ( جدة) بغرام غريق، وهوى لا يفيق وذكريات عذاب، جئتها وأنا غلام اذا هز القناة ثناها، وعدت اليها وانا على اعتاب الشيخوخة، والتقيت بإخوة وزملاء من مفكرين وأدباء وإعلاميين، يحمل كل واحد منهم هموماً أدبية وفكرية، جئت مشاركاً في ( ملتقى قراءة النص الرابع) وكنت قد جئت في (الملتقى الأول) قبل خمس عشرة سنة أو تزيد، وكنت إذ ذاك مجادلاً لا تغمز لي قناة، ولا يعزني مخاصم بالخطاب، أما اليوم فكنت متسامحاً، لا أكلم الناس إلا رمزاً، مما جعل البعض يظن ذلك تراجعاً في الموقف من الحداثة أو مداهنة للحداثيين، وما عرفوا أن للزمان حكمه، وللتجارب احكامها. وعلى هامش (الملتقى الرابع) تعددت المناسبات، حتى كادت تطغى الهوامش على المتن. هذه الهوامش ذكرتنا بالأيام الخالية، أيام الشباب، فعلى هامش الملتقى دُعي المشاركون الى لقاء الإعلاميين في منزل الاستاذ ( عبد المقصود خوجة)، وهو من هو في كرمه وطيب معشره ومشاطرته. وصالونه العامر بسديد القول، وصفوة القوم، وتنوع الأطياف، وتفاوت الأعمار من أعرق الصوالين وأجداها، مع ما بشر به رواد صالونه من نقلة نوعية، تتمثل بتحويله الى مؤسسة مستقلة، لها دخلها الثابت وأعضاؤها الأخيار، وهذا اللقاء الممتع جمعنا برجال الإعلام المتقاعدين والعاملين والمتعاونين الذين تقاطروا على المنصة ليحدثونا عن ذكريات خُضر وأُخر يابسات. في هذا المساء رأيت فعل الزمن وكر الجديدين، نظارات مقعّرة، وعصي تحنى عليها الاصابع، وظهور محدودبة، وخطوات متقاصرة، وأصوات خافتة مبحوحة، وأطراف مرتعشة، وكم كانوا من قبل يملؤون الرحب بأصواتهم الجميلة وكلماتهم العذبة، نسمعهم من الإذاعة، ولا نراهم، ونتصور أن تلك الأصوات الندية تهبط علينا من السماء، كما الطل على جنان الروابي. كان ذلك يوم أن كانت الاذاعة سيدة الموقف، لا تزاحمها قنوات، ولا تهمّشها مواقع، ولا ثورة اتصالات.
وكيف يتصور طفل مثلي مذيعاً يتحدث من جهاز صغير، لا يقدر على امتلاكه، ولا على حرية استماعه، فلقد كانت حيازة ( الراديو) من الموبقات، حتى لقد كنت أعرك اذني حين استمع الى المذيع، لكيلا يعلق بها وضر الاثام، تشكلت صورة أولئك في ظل هذه الظروف، فكانوا في تصورنا كالغول، أو كالعنقاء، أو كالخِل الوفي، و( الخوجه) اعتاد على تكريم الصفوة، ولقد طالتني أفضاله حين كرمني يوم 14-7-1414هـ أي قبل عشر سنوات.
وفي هذه السهرة الممتعة في ساحات قصره، كرّم رمزاً من رموز الإعلام، عرفناه من قبل ومن بعد ب( بابا عباس) إنه الاذاعي والدبلوماسي والقانوني ( عباس فائق غزاوي) بكل ما يحمله من وقار العلم، وحكمة التجارب، وإشراقات ( الدبلوماسية)، ومن حوله عشرات الإعلاميين العاملين والمتعاونين والمتقاعدين.
لقد كانت ليلة متحفية أخرجت الارض أثقالها من رجال الكلمة المسموعة الذين جفوناهم في وقت هم احوج ما يكونون الى الذكر والتكريم. وكنا قد قضينا ليلة سلفت كُرِّم فيها الشاعر الفذ ( إبراهيم العواجي) حضرها صفوة الادباء والنقاد، فكان أن جمعت السهرتان خيار الادباء وعمالقة الاعلاميين يتحدثون عن اخبارهم، وكأنها اساطير الاولين اكتتبوها او امليت عليهم، وحين بدأ حديث الذكريات في ليلة الاعلاميين، عدت الى طفولتي، وأحسست أنني اعدو في الفيافي والقفار، وأسبق ظلي، تذكرت الأموات، وتعرفت على الأحياء، تذكرت (عبدالله بالخير) و( الزمخشري) و( يونس) و( الذيابي) و(الشعلان) ، ولقيت (كريم، وصبحي، ونجار، والعسكري) وعشرات آخرين، وتقت إلى لقاء (العيسى، والشبيلي، والشبل، وغالب)، وذكروني بالمتعاقبين على الوزارة، ممن تليت كلماتهم بالإنابة، ذكروني بمعالي الشيخ (إبراهيم العنقري) بكل رزانته وبعد نظره، وبمعالي الأستاذ (علي الشاعر) بكل حزمه وانضباطه، وبمعالي الدكتور( محمد عبده يماني) المتألق بحضوره الفاعل، وبمعالي الأستاذ (جميل الحجيلان) الذي أجمع المؤتمرون على سمو أخلاقه وبراعة قيادته، وبمعالي الدكتور (فؤاد الفارسي) بتفتحه وتفاعله.
لقد كان ( ملتقى قراءة النص) مناسبة طيبة جمعتنا برجال الفكر والأدب والإعلام، وجاءت على هامشه أشياء لا تقل أهمية عما دار في الجلسات من قراءات ومناقشات، ومع ما أحس به من سعادة بهذه المناسبة، فقد استأت من عزوف الكثير من الادباء وانشغال كبرائهم عن الحضور الفاعل، وضقت ذرعاً ببعض مداخلات وتعليقات توازعتها جلسات الملتقى وصفحات الصحف، ولست ببعيد عن مثل هذه اللقاءات وتلك المناكفات، فلقد حضرت (الملتقى الأول) الذي يشيد به من لم يشهده، وحضرت ( الملتقى الرابع) الذي يسخر به من لم يشهده أيضاً، وسمعت لغطاً فارغاً وتحاملاً مشيناً، ف( الملتقى الأول) كما يقول بعض المجازفين في الاحكام: حفل بأساطين الفكر والادب، فيما جاء ( الملتقى الرابع) هزيلاً يمثل الانكسار، وهكذا تتحكم المذهبية المنغلقة على نفسها في أهواء البعض، ولست معنياً بتزكية الملتقى، ولا بالدفاع عن المشاركين، فما من عمل ولا عامل إلا وله نصيب من التألق، وعليه كفل من الاخفاق، وكل الذي يهمني احترام المصداقية، والتخلي عن الشللية، ولزوم النقد الموضوعي البناء.
ذلك أن تعميم الاحكام يصيب أقواماً بجهالة، فالملتقى حفل بأساتذة وأدباء وباحثين، اصاب من اصاب، وأخطأ من أخطأ، وهم احوج الى من يفكك بحوثهم، ويوقفهم على مواطن النقص والتقصير.
أما الحكم على فشل الملتقى، وتعميم سمة الضعف على كل الأوراق، والتقصير من كل المشاركين والسخرية بهم، فأمر لا يقبل به أحد، وهو مؤشر فشل ذريع وتصوح معرفي.
وحين تكون الشنشنات معروفة ومتوقعة لا تزيد المسهم المتفاني والمتابع الجاد إلا ثقة بالنفس.. ورئيس النادي وأعضاؤه الذين لم يجدوا ما يحملون الملتقى عليه إلا أن يقترضوا مؤنة الملتقى، ولما يقصروا في تحمل تبعات الاستقبال والتوديع والتنظيم، جديرون بأن يقال لهم: أحسنتم لأنفسكم ولمشهدكم الأدبي، واذا نقم البعض من ضعف الاوراق، وعدم جدية بعض المشاركين، فليس من اللائق الاطلاق، وليس من ادبيات الحوار نسف كل الجهود، ولو أني عنيت وحدي بشيء من الملام، لآثرت الصمت، وما ضقت من همزات ولمزات سمعتها تتكرر من ثلاثين سنة، كاتهام ورقتي بالإقصاء والمصادرة ونفي الآخر، ولو أن القائل تواضع، وتغلب على هواه، وقرأ الورقة، أو تلطف واستمع بأذن واعية، لكان أن هدي إلى مواطن النقص واهداها إلينا، فهي ضالتنا وحاجتنا.
وعيب مشاهدنا أنها أوزاع، تعرف ما سيقوله كل فريق، فكل واحد رضي برمجة نفسه، ليكون كآلة التسجيل تغمزه فيقول ما استودع من قبل، حتى في تجمعهم داخل القاعات أو خارجها، يأوي بعضهم الى بعض، يكثرون لمشايعة من يهوون، وإن كان أعيا من ( باقل)، وينفضّون من حول من لا تهوى أنفسهم، وإن كان أفصح من ( سحبان وائل) ، ولأنني لست منتظراً من يثبت أقدامي بمنافحته، ولا خائفاً ممن يزلقني ببصره فإنني مستاء للمشهد الادبي، متألم من استفحال الشللية، فزع من جور الاحكام، حتى لقد قال أحدهم:- إن فشل ( الملتقى الرابع) بسبب غياب عضو من أعضاء النادي، وكأن الساعة آتية إن لم يعد هذا العضو لإيقاف عجلة التدهور، وما هذا القول إلا مؤشر على تصوح المشهد الادبي. واذا كنا نتحفظ على بعض الأوراق ، ونستاء من بعض المتحدثين فإن ذلك لا يستدعي أن نقول :-( ردة ولا أبا بكر لها)، ولقاء مثل هذا يحتاج الى حضور، يستمع الى القول، وينقب عما في الاوراق من تقصير في المادة أو خلل في المنهج، ثم لا يجد حرجاً من محاورة المنتدين، وأيُّ منتدى كهذا، يحتاج الى صحافة يقرؤ مناديبها الاوراق، ويقدمون ملخصات لها، والى متابعة اخبارية، لا تبخس المؤسسات الثقافية اشياءها، والمؤسف ان الملاحق الادبية في صحفنا، محرمة على بلابلها، حلال للطير من كل جنس، وفي ذلك انهزام وتقصير، واذا كنا نحتفى بالآخر، ونفسح له في صحافتنا، فإن من حقنا أن نحصل على مساحات مماثلة في ملاحقهم، وكم اشفقت على مساكين من ادبائنا، يعرضون انفسهم على من ينظرون اليهم باحتقار، ولو أنهم صانوا كرامتهم، لكانوا أنداداً، يفترسون حقهم، ولا يستجدونه.
ولقد شاهدت مواقف مخجلة في مؤتمرات حضرتها في الداخل والخارج، تتمثل في تهافت شبابنا وبعض كهولنا على أصنام لا تحمل طهر الصنم- كما يقول أبو ريشة -.
والذين مجدوا ( الملتقى الأول) ونالوا من ( الملتقى الرابع) أحالوا المكارم الى فلول الحداثة الفكرية، ممن جيء بهم من خارج البلاد، يوم أن كانت الحداثة على أشدها، أمثال ( كمال أبو ديب) و( جابر عصفور)، حتى لقد ذكرهم الناقمون من الملتقى بأسمائهم، وكأن ليس في بني عمهم رماح، وإذا كنت ممن حضر الملتقى الأول، ونافح عن قيم التراث، فإنني مشمول بكرم المشيدين به، مع أنهم القوم الذين يشقى بهم جليسهم، لقد ضاقوا بي ذرعاً، غير أنني مع هذا لا أعباً بثناء القصد، فضلاًً عن ثناء الشمول، وحاجتي فيمن يمحضني النصح، لا فيمن يستدرجني بالمدح. لقد جاء ( الملتقي الأول) في عنفوان الحداثة، وقدمت فيه ورقة تغيظ الحداثيين، حيث أبنت فيها عن ملامح الموروث في النقد الحديث، حتى لقد سخر قوم، واستاء آخرون، ونقبت طائفة منهم في تلافيف الورقة بحثاً عن أخطاء في المنهج أو نقص في المعلومات، ولم أستنكف من مراجعة ورقتي، ولا من قبول الحق، لأنه ضالتي، وقدمت في
(الملتقى الرابع) ورقة عن ( قصيدة النثر) وقطعت بعدم شعريتها، غير أن مداخلات البعض لم تحفزني على المراجعة، لأنها أحكام جاهزة مهترئة من الاجترار ، والورقة مطروحة بمادتها ومنهجها وموقفها، وهي أحوج ما تكون الى ناقد مقتدر، يصدع بالحق، ليقول فيها ما يسد خلالها، وليست بحاجة الى هجاء مفحش، ولا الى مدَّاح مداج.
ومع كل ما سلف فإنني مشفق على كل الذين حاولوا وضع العصي في عجلات المؤسسات الفاعلة، متمنياً أن يقولوا عن فعالياتها الحق، وأن يمارسوا النقد الموضوعي الذي ينفي عن مشاهدنا ما علق فيها من سلبيات ما كان لها أن تظل معوقاً لمسيرتنا المباركة.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved