Monday 12th April,200411519العددالأثنين 22 ,صفر 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

في مسألة المضاعفات الجراحية في مسألة المضاعفات الجراحية
المريض مسكين.. والطبيب مظلوم

يطلق د. عيسى الحديد (أخصائي جراحة العظام بمستشفى الحمادي بالرياض) صرخة حادة، بل تحذيراً شديداً حول ظاهرة (الاختلاط الجراحي) والمضاعفات، حيث تشكل شكوى المريض، وأهله حول العملية هماً للجراح.
ويوضح لنا د. الحديد معاناة الجراح مع المضاعفات الجراحية، ويقول إن علينا أن نفرق بين أمرين حساسين، هما الاختلاط المتعارف عليه، والإهمال.
ويبدأ د. عيسى الحديد توضيح رأيه حول المضاعفات الجراحية، وهل هي قدر أم إهمال؟!.
لا يزال يسيطر على الجراح شعور مقلق قبل كل جراحة يعتزم القيام بها، فهو في تقلب دائم بين إقدام على اقتحام العمل الجراحي وخوض غماره من جهة، وترقب لمواجهة الاختلاطات والمضاعفات مع تحمل اللوم والتقريع من جهة ثانية، حيث تشكل شكوى المريض وأهله اختلاط الاختلاطات، علماً بأن أية عملية جراحية يمكن أن يعقبها حجم لا يستهان به من المضاعفات، بالرغم من كل الاحتياطات والجهود المبذولة.
فكما يقود نجاح العملية الجراحية إلى تهليل الجراح وغبطته مع نجاة المريض وعودته إلى شاطئ السلامة، كذلك يفعل الاختلاط الجراحي في تدني الروح المعنوية لدى الجراح، وزيادة معاناة المريض وذويه على حد سواء.
هذه المشكلة العويصة التي هي في أحد أطرافها حق المريض، وواجب الطبيب يمكن تصورها بشكل أفضل، عندما يقع الطبيب نفسه ضحية في براثن المرض.
لكن قدر الاختلاط في العمل الجراحي يبقى هاجساً لا يمكن تجاهله ولا الفرار منه، بل إنه يأتينا نحن الجراحين على غير موعد وفي عمليات نسميها صغيرة أو حتى بسيطة جداً.
إن كل ما يحدث أن هناك مركباً متعدد العوامل في حدوث كارثة الاختلاطات يمتزج فيها المجهول مع المعلوم، العلم مع الضعف البشري، العقل مع الهوى، الدقة مع العجلة في مركب واحد محير لا يحيط الأطباء بكل تفاصيله، كله يتفاعل في قدر واحد لينتج نتيجة مرة الطعم المسماة بالمضاعفات Complication، لذا علينا أن نفرق في هذا البحث بين أمرين حساسين هما: الاختلاط المتعارف عليه والإهمال.
فالإهمال يقود إلى الاختلاط حتماً، ولكن الاختلاط ليس نتيجة للإهمال، فكل إهمال هو اختلاط، وليس كل اختلاط إهمالاً، وبتفصيل أكثر فالإهمال صفة تخلف وعدم متابعة الحالة وتطوراتها، والتقاعس عن التدخل المناسب لتعديل المسار بما يمكن السيطرة عليه قبل انفلات الزمام، فنزف المريض بعد العملية أمر وارد، ولكن التقاعس حياله والاستخفاف بتبعاته يعني العبث بحياة المريض، تبقى دقة المراقبة ومتابعة الحالة هي الوصفة التي يمكن من خلالها التدخل وإنقاذ المريض وهذا هو لب الجراحة وعمادها، فليس محك الجراح في إنجاز العمل الجراحي، بل بتصحيح الخطأ والسيطرة عليه حين حدوثه، تلك والله علامة التمكن وشهادة النضج والحنكة.
أما الاختلاط فهو الذي لايحبه الجراح ولا يحرص عليه ويخرج عن سيطرته، ولو كان يدخل في جدلية الممكن والمستحيل، فالشيء المستحيل يتحول إلى ممكن أحياناً، ومشيئة الله فوق كل اعتبار، فمع كل الاحتياطات التي يقوم بها الأطباء لتحاشي الخثرة الرئوية القاتلة فإنها ما زالت تحصل بين الحين والحين حتى في أبسط الجراحات، ناهيك عن أعقدها.
بالمقابل علينا أن نقبل أن أي اختلاط سببه خطأ فني جهله من جهله وعلمه من علمه، بذلك نكون قد حررناه من العقل الأسطوري أو اللامعقول، فنزف المريض وانفكاك الخياطة هو قصور فني ويقود إلى الاختلاط ولكن التراخي عنه هو الإهمال عين الإهمال.
ونظراً لكون العمل الإنساني سلسلة هائلة من اجتماع حلقات صغيرة فيكفي أن تنكسر السلسلة في إحدى حلقاتها الصغيرة تلك، كي تنفجر الكارثة مثل نقص التعقيم في الأدوات -تآكل الخيوط- عدم متابعة صيانة الأجهزة -الاستخفاف بإجراءات التعقيم بين الممرضات- الركون إلى أدوات جراحية قديمة ومهترئة أو رخيصة الثمن- الاستخفاف بنزف بسيط، كلها حلقات ضعيفة تتكسر فتدخل الخلل إلى الدائرة بأكملها.
من هنا تأتي أهمية لجان الوفيات والمراضة، المعروفة عند الغرب بMortality & Morbidity Committee، والتي انقلبت في بلادنا إلى سلاح خطير، وأضحت فرصة عند بعض ضعاف النفوس لاستعراض العضلات والاستمتاع بإحراج الآخرين، والتظاهر بالعلم الغزير، وطرح المناقشة بأسلوب متهكم مخابراتي ينم عن سوء طوية ونية لا تبيت إلا المكيدة، وهذه لعمري مشكلة حضارية بحتة، فكما لا يكفي شراء أجهزة معقدة كي ندخل حقل الحضارة، فإن نزع نظام حضاري متقدم واستجلابه إلى بلادنا دون الإحاطة الكاملة بالظروف والشروط التي أنتجته يعطي نتيجة عكسية، فالحضارة ليست أشياء تشترى وتقتنى، إنما هي أفكار وعقلية تبنى لتمتلك سر التطوير.
والعمل الطبي لا يخرج عن هذه القاعدة، بل المشكلة قد تنصب أصلاً في وقوعه أسيراً لعموم أبعاد الفقرة أعلاه، واندفاع المريض بالشكوى، مع حدوث الاختلاط الجراحي هو ظاهرة صحية من طرف على أساس أنها ظاهرة نقد ذاتي تقود على الصحة والعافية، ولكنها من طرف آخر إثارة وتحريض مسلسل لا يخلو من نتائج سيئة على مستويات ثلاثة، أولها إنتاجية العمل ثم تطويره، وانتهاء بتدريب الكوادر الطبية الجديدة، ولعل الخطر الأكبر والخسارة الأعظم تشجيع ممارسة الطب الدفاعي.
لذلك قام النظام الاجتماعي في الغرب حين اكتشف أبعاد الاختلاطات الجراحية بتعويض المريض من ناحية، والمحافظة على المهارة الطبية من ناحية ثانية، وبوضع علم الإنذار وتقدير نسبة الاختلاطات على وجه التقريب، وتكونت بذلك مؤسسات عدة منها التأمين الطبي، والتي أوجدت حلولاً للمريض والطبيب على حد سواء من أجل تحقيق العدل الذي قامت عليه السموات والأرض، فهي لا تريد للمريض أن يتعرض للخطر والإهمال كما لا تريد للطبيب أن يشعر بالخوف في عمله، والمسح على رأسه ورقبته مع كل مصيبة قادمة، واعتبار كل عملية قنبلة موقوتة حتى يثبت العكس لتنمو ظاهرة زحلقة الحالات كي يتفرق دم المريض بين القبائل.
لذلك فإنه لا بد من مؤسسة تنطلق من معادلة مشدودة الطرفين توازن بإحكام بين الحق والواجب وتوفر الأمان لكل العاملين في الساحة الاجتماعية مريضاً وطبيباً سواء بسواء.
ومن ناحية تطوير العمل الطبي فإنه اختراق للمجهول فهو لا يعني القيام بتجارب على الحيوانات فقط، بل على الإنسان أيضاً وضمن خطة مدروسة بعيداً عن زيف المتشدقين بالإنسانية، وبذلك فقد دفع بعض أشهر الأطباء حياتهم ثمناً للتقدم العلمي حينما جربوا عقاراً أو لقاحاً جديداً.
وإذا انتقلنا إلى التدريب كان الكأس دهاقاً لأنه لا يمكن تدريب الأطباء الجدد واستمرار عملية نقل المهارة وخبرة الأجيال دون هذه المخاطرة أيضاً، وهي عملية لا بد منها، فالجراح سيشيخ يوماً وتهتز أصابعه، فلا يحسن إمساك المبضع، والصبر المضني وقوفاً على طاولة العمليات حتى انبلاج الصبح مع عذاب الليالي وطول السهر مع الاستيقاظ والنوم المتكرر بأشد من عادة القطط السوداء في الليل البهيم بين مريض قد مات وولادة قد تعسرت وحادث سيارة لإنسان مهشم وطفل مكسور الرأس وقيح ينز ودم ينزف على سمفونية الجراحين التقليدية هذه، يذبح الجراح نفسه ليل نهار يعاني من فرط التوتر فتغدو حياته قصيرة وأيامه ثقيلة معدودة.
أما وإنه لتمر على بعض الجراحين لحظات لا يحسدون عليها بين مطرقة الشكوى وسندان الاختلاط، إن قدم رجلاً اعتصرته ماكينة التحقيق وإن أخَّر رجلاً خسر مهارته الجراحية، غير أن أعظم عمل يقوم به الجراح - حين يعجز كل الناس - هو فن التعامل مع الحياة بالدفع للوجود والمحافظة عليها وصيانتها وإنقاذها من غمرات الموت الرهيبة، بين أم حرمت الأطفال طوال عمرها فحملت، وقهر مرض عضال عاناه المريض سنوات طوالاً، والتخلص من ألم مرض حرم صاحبه متعة الحياة تمتد إليه يد الجراح بالجد والصدق والصبر فتزيل عنه ذلك كله.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved