نعم ها هو الموت يختطف فلذة فؤاد تتعثر الحياة بفقدها وتتكدَّر الأيام بغيابها وتغلب الدموع فوق كل عينين تكحلت بناظريه علمت بنبأ فقد الفقيه الشاب الداعية د. عبد السلام البرجس في حادث مروري مؤلم روّع القلوب وأجهش العيون وأدهش الأسماع.
لقد عرفت أخي وصديقي د. عبد السلام منذ أكثر من خمسة عشر عاماً تعلوه نضارة الأخيار وصلاح الأبرار، يرتقي بكل همَّة إلى رتب العلماء ودرجاتهم.عرف بولعه وشغفه بالعلم تعلماً ومدارسة وبحثاً وتأليفاً منذ صغره، بل قد كانت له كتابات علمية رصينة جادة وهو بعدُ في الصف الثاني الثانوي في إشارة إلى سبق علمه وعقله على عمره.
كانت أعين أساتذته ورقيب زملائه لا تفارق هذا الشاب المتوقّد ألمعيةً وحفظاً ودراسة. وكانت شفاههم لا تخطئ أن ثمة شأناً سوف يصاحب هذا الشاب المتألق؛ فلم يخطئ الحدس ولم يخب ظنهم فارتقى درجات العلم بسرعة ولمّا يزل في ريعان شبابه - رحمه الله.
لقد كان يمثل - رحمه الله - أنموذجا للجيل الثالث من طلبة العلم الذين ارتووا من أحضان العلماء، وثنوا ركبهم بين أيديهم، وتعلقوا بدروسهم وحلقهم.
ولم تكن علومه من ردهات الرفوف وشبكات الإنترنت أو قصاصات ولفائف، بل ضميم مدرسة علمية أصيلة استحضر كتب العلماء وارتوى من معين السلف ونهل من علوم الخلف فأصاب خيراً كثيراً.
كانت له عين سابقة على كتب أئمة الدعوة - رحمهم الله - فأكبّ عليها وعكف على مدارستها تحقيقاً وتخريجاً وعناية ونشراً؛ حتى اقترن اسمه بكتبهم - رحمهم الله جميعاً.
عاش - رحمه الله - متواصلاً مع العلم لا على أنه وظيفة عمل فحسب، بل أحبه حتى صار شغله يومه كله، لا يكاد ينقطع عنه مع أنه كان يُعاين ويرى تهافت أقرانه وزملائه على الدنيا واللهث وراءها ونأيهم عن محاضن العلماء وحلقاتهم.
كان يتحسس حاجة الأمة إلى مشاركة طلبة العلم والعلماء في كافة المناشط والبرامج وعلى رأسها الإعلامية؛ فكان ظهوره في غاية من التوفيق توجيهاً وإفتاء، مقراً باحترام فتاوى العلماء واجتهاداتهم التي دوماً يذكرها بدليلها وتأصيلها.
شارك - رحمه الله - في ملتقى الحوار الوطني الثاني فكانت مشاركته من أميز وأبرز المشاركات معبراً بكل صدق وجرأة عن الرأي السلفي الصالح الذي قامت وسارت عليه هذه البلاد - حفظها الله.
له - رحمه الله - آراء فقهية ناضجة وتحقيقات عصرية فذَّة في النوازل المستجدة في البيوع والمعاملات وغيرها. وكان - رحمه الله - من أوائل من عني بمسألة التكفير والخروج على الولاة وظواهر التبديع والتفسيق وضوابط التكفير.
بيد أن من أجل صفاته - رحمه الله - والتي بحق يغبط عليها دماثة خلقه وسلامة صدره وأريحيته التي تدنيك إليه بكل سرعة.
احتوى قلوباً عديدة بابتسامته اللطيفة واحتفائه اللبق وتقديره للناس كافة؛ مقتفياً سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أكمل الناس خلقاً.
وعلى الرغم من صغر سنه إلا أنه بحق يعد من أبرز أبناء جيله ومن خيرة طبقته وأقرانه بل يعد في طليعة طلبة العلم.
ها هو الموت مرة أخرى يفجعنا بأحد أبرز الشخصيات العلمية الشابة الناضجة علماً وفكراً وفقهاً وخلقاً وتسامحاً ودعوة بالحسنى، يمثل أنموذجا حسناً لجيله من الشباب في حرصه وعقله وعلمه.أجزم أن هذه الكلمات التي اسطرها لن تزيدني وقارئها إلا حزناً وحُرقة وألماً على فقد الشيخ المحقق د. عبد السلام، إلا أنه يتعين الاعتراف بمرارة فقده وعظم مصابنا فيه، مبتهلاً إلى الله أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يلهم أهله ومحبيه الصبر والاحتساب، وأن يجزيه خيراً على ما قدم من نفع وعلم. و(إنا لله وإنا إليه راجعون).
|