حديثي اليوم لا يشبه ما اعتاد الناس مني حين يقرأون ما أكتب أو ما أذيع ، وسبب ذلك أنه حديث أقوله عن شخص أحببته، ولم أر فيه إلا ما أحب وعندما فارق دنيانا لم يبق عندي منه إلا محبته وعلمه، وكفاك منهما ذخرا. وكنت أستمع للشيخ حمد الجاسر رحمه الله، أو أقرأ له فالأمر عندي سيان. فأجد عند ذلك متعة لا عهد لي بها، فهو يأخذني إلى ألوان من المعرفة التاريخية، أو شذرة من شذرات الأدب، أو إطلالة على موقع يجمع فيه بحذاقة بين التاريخ والجغرافية والشعر أو يسمعني لطيفة في النسب، ثم لا أجدني إلا مبهورا، لا أعرف له نقيصة. ولا ألتمس له معيبا.
وأنا حين أسمع منه فهو يريني لونا من المعرفة ، معرفة أعدها دون مبالغة تجديدا لنفسي، وتوثيقا لعقلي، وتزكية لنفسي فكفى بها من معرفة، وإن شئت قلت: كفى بها من علم.
وأنا أعد الشيخ حمد من أصحاب الفن الراقي في كل ما طرقه من علوم ومعارف، وهو لم يشتهر بصفة الفنان. ولكنه عندي فنان لا شك في ذلك والفنانون كما هو معروف ناس من الناس لهم ما لغيرهم من الأخلاق، ولكنهم يمتازون بميزة الفن الذي طبعوا عليه، من الحس المرهف الدقيق، والشعور القوي الرقيق. ومع هذا فقد اجتمعت للشيخ حمد خصال الحكمة وهي: حبه لحرية الفكر، ونزوعه للوضوح والصراحة، والعناية بالكليات دون إهمال الجزئيات، ثم أخيرا عدم الوقوف عند النصوص، بل يتعداها باحثا عن العلل. وهذه الخصال مجتمعة سببت له مناغيص في بواكير حياته ووسطها.
وأنا أحب أن أقف عد خصلة واحدة أجدها واضحة في كل ما كتب وهي خصلة الجلاء والصراحة فرأيه واضح في خاطره وعقله، قبل أن يذيعه بصراحة، لا يجنح فيما يقول أو يكتب إلى لغة مزوقة، أو إلى لغة مقعرة فالمعنى عنده مقدم على المبنى، والفكرة عنده أهم من العبارة، بل إن تعابيره بسيطة تذهب مباشرة إلى المعنى المراد. وهو قادر أن يجري على أساليب شيوخ الأدب العربي المعروفين، ولكنه بصنيعه هذا آثر جلال المعنى على جمال اللفظ. وهذه خصلة من خصال الحكمة تحسب له.
تداعت هذه الرؤى في خاطري، وانداحت ثم اضطربت في نفسي، وعندي منها كثير، ولكن (بعض الربيع ببعض العطر يختصر) أقول: عندما علمت أن أخي الشيخ الوجيه عبدالمقصود خوجة يدعو ضحوية الخميس، التي تعقد في منزل الشيخ حمد الجاسر، من أجل تكريم حمد الجاسر ممثلة في ضحويته. بادرت إلى تقييد هذه الرؤى. أما دعوة الشيخ عبدالمقصود فهي، وأيم الحق، من أفانينه التي ما برح يفاجئنا بها بين الفينة والأخرى. والحق أنه أصاب، وفعله مثاب، فتكريم الضحوية تكريم للشيخ حمد، ذلك أن الشيخ حمد، كما أعرفه جيدا، كان حريصا على ضحويته، حريصا على فتح باب دارة العرب ضحى كل خميس. وكانت تلك الضحوية بمثابة جامعة مفتوحة. ولو كان يختلف إليها مثل أبي حيان التوحيدي، لربحنا كتاب امتاع ومؤانسة لا يقل عن كتاب الإمتاع المؤانسة المكتوب في القرن الرابع الهجري. ولكن هيهات أن يتكرر أبي حيان أو غيره، فلكل زمان دولة ورجال، والمواهب لا تتكرر، ولكنها تتعدد، وقد تتشابه. والدهر على نقيض ما يقول الشاعر:
والدهر آخره شبه بأوله
ناس كناس وأيام كأيام |
ما يقوم به بعض أدباؤنا وتجارنا من احتفاء بالأدب والأدباء، والثقافة والمثقفين، أحياء وأموات، خليق أن يثير الرضاء، ويبعث الغبطة في نفوس الشباب، وهم يرون أن الاشتغال بالثقافة وأربابها، وبالأدب وأهله مدعاة للفخر، ووسيلة للتكريم وإن للأدب والثقافة قيمة وغناء. وليتقبل الأخ الوجيه الأديب عبدالمقصود خوجة مني أصدق الشكر وأخلصه، لأنه أرضاني مرتين: الأولى عنايته وتكريمه للثقافة والمثقفين، وثانيا احتفاءه وتكريمه لضحوية شيخي حمد الجاسر رحمه الله.
د. عبدالله بن إبراهيم العسكر |