Monday 12th April,200411519العددالأثنين 22 ,صفر 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

أين هو المثقف؟ أين هو المثقف؟
د. عبدالرحمن الحبيب

تناولت المقالةُ السابقةُ سؤالَ مَنْ هو المثقف وما دوره، ورغم التفاوت في الإجابة باختلاف المجتمعات والأزمنة إلا أنه أمكن الاتفاق على أن المثقف طليعة في عمله المعرفي من خلال امتلاكه لعقلية نقدية تحليلية. وخلصت المقالة إلى أنه أيَّاً كان المفهوم الطليعي أو الريادي للمثقف، فإنه يقودنا إلى سؤال صعب في زمن العولمة الرأسمالية وحاجة المثقف أن يعيش من إنتاجه حسب رغبة السوق، فلا يغدو ريادياً ولا طليعاً، مما أدى إلى مقولة نهاية المثقف ونهاية الايدلولوجيا، وهنا نسأل: أين هو المثقف؟
تتثمل العولمة بإحدى صورها في حالة تسليع الأشياء، ومن بينها تسليع الثقافة والعلم في الدول المتطورة، وتتبعها مفهومياً وواقعياً دول العالم قاطبة، لقد أصبحت أهداف ووسائل ومن ثم نتائج واستدلالات البحث العلمي الثقافي والتجريبي لسلعة تحتكرها مؤسسات معينة أو الشركات العملاقة متعددة الجنسية أو حتى الشركات المحلية الكبرى. فالبحث يُموّل غالباً من هذه المؤسسات مما يهدد تنوع الابتكار لأنه أصبح منحصراً على رغبات تلك الجهات. وذلك يستتبع ان يغدو العلم منفصلاً - ولو جزئياً - عن تطلعات المجتمع ومبادئه العليا، لأنه ارتبط بالمفهوم المباشر والضيق المدى للنفعية وحسابات الاستثمار والتكلفة من جهات التمويل، وأصبحت شرعية البحث تقاس بمدى تلبيتها الاحتياجات الاستهلاكية والمباشرة، وخاضعة لمفهوم الربح والخسارة، مما يفضي إلى أن المنظومة الثقافية - من ناشطين ومفكرين وباحثين - التي تميزت بمبادئها وتقاليدها الثقافية المستقلة والرائدة، تتحول إلى منظومة تابعة وجهاز إنتاج براجماتي ضحل علمياً يلهث وراء رغبات السوق..
وكان المفكر والمناضل الفرنسي المشهور (ريجيس دوبريه) قد أعلن بحسرة نهاية المثقف، في عمل حمل عنوان (المثقف الفرنسي: تتمة ونهاية). كما طرح المفكر السويسري (جان زيلغر) مسألة التناقض بين وحدة العالم وتفككه (بين تقليص صورة العالم وتحوله إلى قرية كونية، وبين موت التضامن البشري)، موضحاً أن سطوة العولمة الرأسمالية وخلو الساحة من حركات اجتماعية تتبنى وتُفعّل أفكار المثقفين أفضت إلى عجز المثقف أو نهايته!! ونجد صدى لفكرة (نهاية المثقف) في كتابات بعض المفكرين العرب، مثل: علي حرب كتابه (أوهام النخبة)، وحازم صاغية في (وداع العروبة)، وعبدالإله بلقريز في (نهاية الداعية).. وكلها مع تفاوت فيها تشترك في فكرة أفول زمن الداعية الواعظ، مثقفاً تقدمياً كان أو سلفياً.. فلا جدوى من المثقف الواعظ في عصر العولمة المرئية: (أولاً: انظروا إلي، أما الباقي فلا قيمة له) (ريجيس دوبريه وجان زيلفر).
فكرة نهاية المثقف استدعت الصحفي الفرنسي ايمانويل لوميو المهتم بالشؤون الفكرية وتاريخ الأفكار أن يطرح سؤالاً جوهرياً هو: أين هو المثقف؟ عبر كتابه (السلطة الفكرية، الشبكات الجديدة 2003). أين هم المثقفون؟ أهُم أولئك الذين يظهرون كثيراً أمام كاميرات الفضائيات، بغض النظر عن أنهم ليسوا الأكثر أهمية أو الأكثر تعبيراً عن الثقافة الأصلية في مجال اختصاصهم؟ فقد أصبحت الثقافة السائدة إعلامية بالدرجة الأولى. وأصبح هناك مثقفون اكتشفتهم الفضائيات، وصاروا مفكرين على (الموضة) أو مراسلين للمحطات وهم دائماً على عجلة من أمرهم يتنقلون بين المحطات.. حتى وصل الأمر ان نرى فيلسوفاً أو مفكراً يعد فيلماً وثائقياً إخبارياً..
ويعترف البعض بأن الوسط الثقافي مثل بقية الأوساط الأخرى يخضع للمصالح والاتجاهات والقوى. لذا، يستدرك لوميو بأن المثقف كان دائماً يحظى بمكانته من خلال التكريس الذي يناله من معاصريه، ولأن آليات التكريس ومعاييرها هي التي تبدلت فإن موقع المثقف تبدل، حيث تحول إلى مجرد صحفي لكن ربما مع طموح أن يصبح صحفياً من درجة أرقى.. ويوضح لوميو بأننا تعلمنا أن الفكر هو بث عن الحقيقية وأنه مثل الأدب يرنو الى الخلود.. بل إن تسمية (الخالدين) تطلق على اولئك الذين تم انتخابهم كأعضاء في الاكاديمية الفرنيسية لكن يبدو اليوم أن المثقفين يمليون الى ولوج المسافات القصيرة فقط.
وعلى النقيض، يرى البعض أن مقولة نهاية المثقف الواعظ أو الداعية ما هي إلا تماهي مع طرح غربي له ظروفه وملابساته المختلفة عن سياق ظروفنا العربية (تركي علي الربيعو)، مما يفسر دعوة محمد أركون إلى إحداث قطيعة جذرية مع المفهوم الغربي للمثقف، ومطالبته مع مفكرين آخرين كمحمد عابد الجابري وادوارد سعيد، بالاستقلالية السياسية للمثقف العربي والمسلم الذي لم يحظ بها مثل نظيره الغربي.. إنه البحث عن المثقف المستقل في تاريخنا كابن المسيب وابن حنبل وابن رشد.. ومن ثمة، حسب هذه الرؤية لا يزال هناك دور قيادي فعال يمكن للمثقف العربي أن ينجزه.. فلا سبيل للمثقفين كي يقوموا بدور فاعل غير الانخراط في العمل السياسي الواعي والتواصل مع الشرائح الاجتماعية والتعبير عن همومها، وتنمية التفكير العقلاني في المجتمع مع تغذية روح النقد وممارسة النقد الذاتي، وتشجيع البحث العلمي والمعرفة العلمية.
لكن ما هي الآليات لمثل ذلك العمل؟ كيف يتحرر العلم من آليات مجتمع العولمة الرأسمالي؟ وكيف يمكن للثقافة أن تقاوم سياقات العولمة واستلابها للوعي العام؟ هناك محاولات إجابة متنوعة ومختلفة لا يتسع المجال لها.. أهمها إجابات مناهضي العولمة، فهناك من يرى أن العولمة من فوق، التي تتزعمها الشركات متعددة الجنسية، يمكن مجابهتها بعولمة من تحت عن طريق التضامن الشعبي (جيري بريشر، تيم كوستيلو، براندان سميث)، ويشابههم من يطالب بإنشاء بنوك معرفية للجماهير (ليوتار وسيد سلامة).. ومن يرى أن مقاومة العولمة الرأسمالية تتم بمناقشة وفضح أساليب الهيمنة التي تمارس في صيغ ثقافية، ثم تتحول هي نفسها إلى سلطة، فينبغي كشفها وتعريضها للجميع، ومن ثم التأثير على الرأي العام الذي بدوره سيؤثر على السلطات المهيمنة والمؤسسات الكبرى (اليزابيث إميس).
ويوضح سيد الوكيل أنه منذ عشرين عاماً، دعت مجلة أمريكية إلى مؤتمر للكتاب المناهضين لسياسة (ريجان)، وكانت النتيجة أن حضرت أعداد غفيرة من الأدباء والفنانين والنقاد والصحافيين ونشطاء في مجال البيئة وحقوق الإنسان والمرأة والطفل لا يجمعها سوى شيء واحد هو مناهضة سياسة ريجان. وهنا يرى إدوارد سعيد في مقال له بعنوان (الدور العام للكتاب والمثقفين) أن مثل هذا التجمع هو أبلغ رد على مجموعة المقالات والكتابات التي راحت تبشر بموت المثقف.
أين هو مفهوم المثقف؟ أظن أنه في حالة احتضار! فرغم أن كثيراً من أدوار المثقف لما تزل مؤثرة في المجتمعات العربية، فإنه يمكن القول، عموماً، إن المثقف المناضل الطليعي (بالمفهوم السياسي) في طريقه الى الاندثار، إن لم يكن قد اندثر فعلاً، خاصة في المجتمعات الغربية، إلا إذا صحت رؤية دوبريه بأن العالم يزداد تفككاً بزيادة توحده عبر العولمة، لأنها عولمة مزيفة محتكرة لا تبادل فيها ولا تعامل بالمثل.. فكلما تضخم الاقتصادي تشرذم السياسي، مولداً إعادة التجذر فيه، بالتناقض بين تنامي العولمة الاقتصادية والتفكك السياسي سيؤدي الى صياغة العالم على نحو مختلف.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved