Saturday 10th April,200411517العددالسبت 20 ,صفر 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

دور النخبة في حركة الترجمة دور النخبة في حركة الترجمة
أ.د.عبد الله بن حمد الحميدان/عميد كلية اللغات والترجمة

لايخفى على المطلعين من أهل الرأي والمعرفة أنّ اللغة العربية، التي كانت حدودها لا تتعدى حدود شبه الجزيرة العربية إلا قليلاً، صارت، بعد انتشار الإسلام، أهمّ لغة في العالم قاطبة، خلال العصور الوسطى؛ ليس في الدّين أو علوم اللغة فحسب، بل في كل العلوم التي كانت سائدة آنذاك؛ مما حدا بروجر بايكون (ت 691هـ/1291م)، وهو ممن يعدّ في الأوساط العلمية الغربية: رائد العلوم التجريبية، أن يُصرّح: (أعجب ممن يريد أن يبحث في الفلسفة وهو لايعرف اللغة العربية).
ومن قريب (1370هـ/1950م) ألقى جورج سارتون، أبرز أساطين مؤرّخي العلوم، محاضرة في مكتبة الكونغرس بعنوان: (الثقافة الغربية في رعاية الشرق الأوسط)، تعرّض فيها بشيء من التفصيل إلى اللغة العربية وهيمنتها على اللغات كافّة، حيث أورد أنّها كانت: (في أثناء العصور الوسطى، فعلاّ، أكثر اللغات التي تكلّمها البشر انتشاراً).
لم تبلغ اللغة العربية هذا المستوى الرفيع في كلّ مجالات العلوم وتحافظ عليه قروناً متتابعة إلا لأنّ الله جلّ شأنه حباها بخصائص لا تتوفر للغات الأخرى من حيث الأسلوب والدلالات والتراكيب والجمال. فقد جعل سبحانه وتعالى القرآن العربي المبين آية لنبوة الرسول الأكرم عليه السلام، لأن العرب أهل بيان وفصاحة. وقد اهتم المسلمون باللغة العربية لأنها حوت معاني القرآن الكريم بصور ومعانٍ لا تتسنى وقد لا يكون لها المعنى نفسه في لغات أخرى. فانبرى كثير من أمراء المسلمين وأغنيائهم ومثقفيهم إلى خدمة اللغة وأهلها عن طريق الترجمة. فقد كانوا أصحاب فكرة نقل علوم الأمم الأخرى إلى اللغة العربية، والمتعهدين بمد المترجمين بالمؤازرة المادية والمعنوية. ففي عهد خالد بن يزيد بن معاوية (ت90هـ/708م) بدأ فلاسفة اليونان في نقل كتب الصنعة إلى اللغة العربية، فكان أول نقل إلى العربية، كما يذكر ابن النديم (ت438هـ/1047م)، صاحب كتاب الفهرست.
وفي العهد العباسي ازداد النشاط كثافة، ومنذ بدايته؛ فقد تعهد أبو جعفر المنصور دعم النّقلة لكتب الفلك والطب والحساب. وسلك الخلفاء العبّاسيون، الذين جاءوا من بعده طريقه بل زادوا عليه، إذ كان بعضهم يعطي المترجم زنة الكتاب ذهباً إمعاناً بأهمية النقل والترجمة إلى اللغة العربية. ومما لاشك فيه أنّ الخليفة المأمون (ت218هـ/833م) كان أكثرهم حماسة، فهو الذي ابتنى (بيت الحكمة) في بغداد، وجمع فيه النّقلة؛ فكان هذا البيت، أو هذه الدار، أول مؤسسة رسمية، تقوم بمهام الترجمة والنقل من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، بدعم من الدولة، وتحت إشرافها. وصار النقل والترجمة، في تلك الحقبة، جزءاً لا يتجزأ من سياسة الدولة.
واضح أنّ إدراك الحكام إلى أهمية نقل الثقافة العلمية التي امتاز بها اليونان والفرس والسريان والهنود في ذاك الزمان هو الذي -كما ذكر سارتون في محاضرته، آنفة الذكر - فسح المجال لما يجوز أن نسمّيه معجزة العلم العربي، آتين بكلمة معجزة لترمز إلى تفسير ما بلغ إليه العرب في الثقافة والعلم مما يخرج تقريباً عن نطاق التصديق. وليس لذلك شبَةٌ في تاريخ العلم كلّه ماعدا حسن اكتساب اليابانيين للعلم الحديث.
ولأن الناس، في جملتهم، كانوا متعطشين للعلم، مادام نافعاً في دينهم ودنياهم؛ فقد كانوا بحاجة إلى الطب للاعتناء بأبدانهم، وللحساب وللفلك في شؤون دينهم، وللدواء لمعالجة مرضاهم.. إلخ.
وهكذا اجتمعت هذه الأسباب فكانت تلك النهضة العلمية الرائعة، وقد عدّها سارتون معجزة. وليس هذا بعجيب. فمن يقرأ كتب التاريخ، يقرأ أنّ نهر دجلة بقي نحو أربعين يوماً معكّراً بالحبر، جرّاء رمي الكتب فيه، لما استولى التتر على بغداد عام 656هـ/1258م.
ثم ما لبث الحكام وأصحاب الثراء أن أهملوا هذا الجانب العظيم، فتراجع الإبداع،وبدأ الجهل يضرب أطنابه بين العامة والخاصة، وانصرف الناس إلى الإشادة بالماضي دون أن يأخذوا بالأسباب، التي أخذت بها أجيال القرون الأربعة الأولى، مما أهلها أن تكون نموذجاً حياً في التقدم والارتقاء. وجدير بالذكر بهذه المناسبة ما أشار إليه سارتون في محاضرته: وتفوّق العرب لم يكن في ابتكارهم المبدع بقدر ما كان في ثباتهم وفي شدة حبهم للعلم. ولقد فهموا يومذاك (وهذا ما نسوه بعد ذلك) أنّ المعرفة يجب أن تنتهي على أساس صحيح... وكذلك أدرك قادة الفكر فيهم بوضوح أنّ الإنسان إذا أراد أن يكتسب المعرفة العلمية فإنّه لا يستفيد من البدء بالقمة، من طريق استعارة التطبيقات العملية الأخيرة، بل يجب أن يشرع من الأساس بالمبادئ الأولى..
لقد كان دور الحكام، ولا يزال، وسيبقى، الأهم من تطوّر الأمة علمياً وثقافياً؛ وشواهد التاريخ تؤكّد ذلك لكلّ ذي بصيرة. فمصر التي رزحت تحت وطأة الجهل والأمية في مجالات العلوم الكونية بضعة قرون، استطاعت أن تستعيد نشاطها العلمي هذا بمجرّد ان توفر لها حاكم ذو قناعة عميقة انّ التقدم لا يكون إلا بالأخذ بأسبابه: وأسبابه التعليم والتدريس بلغة الأمة؛ التدريس باللغة العربية؛ وهذا الذي فعله حاكمها محمد علي باشا (ت 1849/1265م)، إذ أمر بالتدريس باللغة العربية وأمر، كذلك، بترجمة كتب العلوم الطبية والكيميائية والفيزيائية وغيرها إلى اللغة العربية. يذكر صاحب الأعلام في ترجمته لمحمد علي باشا أنه كان يحتم على من يدخل في خدمته من الإفرنج أن يتزيوا بالزي العربي (المصري) ويتكلّموا اللغة العربية ويؤلّفوا بها أو ينقلوا كتبهم إليها. ولولا أن ابتليت بالاستعمار، الذي فرض على أبنائها لغته في أواخر القرن الميلادي السابق، لما تخلّفت عن اليابان إن لم تزد عليها.
واضح مما سبق أهمية التعريب وأهمية استخدام اللغة العربية إذا ما أريد لهذه الأمة أن تتقدّم في العلوم وفي التقنية الحديثة. وهذا لايعني قط أن تقطع الأمة صلتها باللغات الأجنبية، فليس هناك أمة تستغني عن غيرها.
وفي العصر الحديث في بلادنا نرى دفع النخبة في هذا الاتجاه ممثلاً في توجهات قادة البلاد في التركيز على تعليم اللغات الأجنبية وتعليم الترجمة، فافتتحت حتى الآن ثلاث كليات للغات والترجمة تمثل أكبر تجمع مؤسساتي في هذا المجال في المنطقة العربية ونتج عن نمو المجتمع الترجمي واللساني إنشاء أول جمعية سعودية للغات والترجمة. ومما يشار إليه بالبنان دعم صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز الدائم للأعمال المترجمة وخاصة تلك التي تقدم المجتمع السعودي وثقافته وتاريخه إلى بقية مجتمعات العالم فقد قام سموه بدعم لا محدود للترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية المختلفة. وكذلك دعم صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز في مناسبات عدة أوضحها ما كان من جهود بذلت عن طرق مؤسسة الملك فيصل الخيرية ثم عن طريق جائزة الملك فيصل وأخيراً عن طريق مؤسسة الفكر العربي التي يرأسها سموه، حيث أعلنت المؤسسة اعتزامها ترجمة مائة كتاب خلال العام الحالي، وتوجه المؤسسة إلى إيجاد الملتقى العربي السنوي للترجمة الذي نرجو أن يكون مجمعاً للجهود الفردية المتناثرة في أركان العالم العربي. ونرى أيضاً توجه صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن فهد بن عبدالعزيز حيث يسعى إلى حشد الطاقات والجهود في المملكة خاصة وفي العالم أجمع بشكل عام حين أعلن عن إنشاء مركز الملك فهد العالمي للترجمة، فيرقب المتخصصون والمهتمون بداية نشاط هذا المركز بكثير من التفاؤل راجين أن يفرض نفسه لبنة في أسس بناء الحضارة والثقافة في البلاد.
وأخيراً فإنه من الملاحظ أن قيام النخبة بدعم أعمال الترجمة يأتي من قناعاتهم الشخصية بجدوى ذلك وأهميته في وقت تخلو فيه الساحة من دراسات علمية لتأكيد هذه الأهمية ودراسة تأثيرها على مجتمع الملتقى من النواحي العلمية والثقافية والفكرية، وكذلك دورها في بناء شخصية المواطن وبالتالي طموحه وانتماؤه لهذا المجتمع الذي ساهم في البناء العلمي له. وخصوصاً أنه يطل من خلال هذه المترجمات على ثقافات عالمية متعددة وهو بذلك يربطها بثقافته ليدرك أنها جميعاً تنتظم في قلادة جميلة متناسقة تضم جواهر مختلفة الألوان والأشكال اسمها حضارة الفكر الإنساني، حضارة فكرية تعتمد التكامل لا التنافر والوئام لا الصدام والصداقة لا العداء.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved