أشعر بحالة عزوف عن الكتابة ، كأنني كلما اقترب موعدها أستعد للذهاب إلى تهلكة أو اقترب عزلاء إلا بتباريح الروح وعوادم الهواء من حافة هاوية مريعة لا أدري من هي الأيدي التي تدفعني إليها ، كما لا أدري أي الفؤوس والمساحي ستتلقفني فيها وتهيل ترابها على قامتي. فلا يسمع أحد من قراء جريدة الجزيرة يوم الخميس دقات قلبي وقد تركتني وحدي أنبش الكلمات علني أروغ من الوقت بضعة أعوام أخرى أو أياما قليلة قبل أن أرخي يدي عن القلم لتكون آخر ما يدخل من ضيق جثماني إلى بحول الرحمن فسحة قبري.
لذا ألعب بمفاتيح الكمبيوتر في محاولة أن أؤخر ساعة الكتابة، فأمْر ساعة المغادرة عند عالم الغيب والشهادة وحده، وبمجرد أن أقرب أصابعي من عقاربها يرفع عقرب الثواني شوكته ويبدأ بشك كفي بشهد سمومه المصفاة وحلكة ليلي المعشقة بالسهر حتى أكاد أستسلم للمضي معه عكس عمري بطواعية وغبطة وسمو أولئك السلاطين في المخيلة القصصية أو سجلات التاريخ الذين ارتضوا التنازل عن عروشهم في لحظة طيش عشقي.
يلاحقني الهاتف المتحرك بل والهاتف القعيد أيضا بنداءات تنبهني بلين في بادئ الوقت أو مطلع الأسبوع إلى أن تصير مع نهايته تعنفني بقسوة صفارات القطارات حين يوشك الرحيل أو بالرجع الموجع للنداء الأخير لرحلات الطائرات قرب إغلاق الأبواب والانسحاب إلى المدرج. فتعتريني تلك المشاعر التي هي مزيج من الإحجام والإقدام ، التراجع والتقدم ، التمسك والتخلي ، الاستماتة واللامبالاة ، الرهبة واللهفة عندما نكون على حافة شفرة أو على شفير أن تفوتنا رحلة. فنتجاهلها جميعا ولا نصغي في كل تلك الأصوات المصطخبة داخلنا إلا إلى الصوت الذي له سطوة التهديد بالفقد لنقذف بأنفسنا بكل ما أوتينا من سرعة الحركة باتجاهه ، وكأننا لم نعد نملك من أمر خياراتنا إلا عدم التأخير للحاق بما يكاد يصير في حكم حتفنا. إذ عندها كما لا يعبأ القبطان بتلك السواعد المعلقة بين اليابسة وبين البحر وهي تلوح مناديل الوداع المبللة بلوعة الفراق وتوجس المجهول بعدم العودة ، فإن رئيس التحرير لا يرحم تأخر الكُتّاب في الالتزام بمواعيد دقيقة ومسبقة بوقت كاف على إغلاق صفحات الصحيفة قبل الإصدار.
كما أنه وإن تعاطف مع ما يراه من تقيح جراحهم أو تشقق أوردتهم على الورق ، فإن ليس له أن يفض تلك الاشتباكات الدامية بين الكاتب وبين كتابته. وكل ما في وسعه أن يطلب من الكاتب أن يغسل كلماته من دمائه وسهره وسخطه وغضبه ومن وحم الكتابة ومخاضاتها قبل أن يبعث بها إلى الجريدة ، على ألا يستغرقه ذلك تأخير المقال عن موعده. والموقف الصعب هنا هو كيف يمكن الكتابة عن الحب، البلح، الحرية، التسامح، الحد، اللحد، الحمل، الحلم، الروح، النجاح، الانسحاب، الحنطة، التباريح، الرحيل، القبح، الحلى، الحلال، الحرام، البحر، السحاب، الصحراء، التفاح، الحوار، الحرب، الضحايا، الحياة، حمامة السلام، الأحياء والوحدة الجارحة دون استخدام حرف الحاء. كيف يمكن الكتابة عن وحشية الحروب إذا أخفيت جثث القتلى وأحرقت السجلات التي تدل على أنهم كانوا هناك أحياء يرزقون قبل اشتعالها. هل يمكن الكتابة عن العدل ،المساواة ، الشعر ، التشكيل ، الخضرة ، الأرض ، السماء ، الشمس ، القمر ، الأمل ، الماء ، الصبر ، الطفولة ، العنفوان ، الإباء ، الجمال أو الوجه الحسن بغير أشواق المجتمعات البشرية ومحاولاتها الفاشلة والناجحة معا على مر العصور لاستدراج تلك الكلمات المتكبرة خارج القاموس وتوطينها بين الناس. وهل يمكن كتابة تلك الكلمات بحبر سري لا يلحظه حراس اللغة الذين يتذرعون في محاصرتها بالخوف عليها من النزول إلى الشارع والاختلاط بالأطفال والحالمين والعشاق والشعراء.
هل يمكن الكتابة عما يجري في العالم اليوم وما يجري على الأرض العربية بالقفزات بينما المخالب والخطافات تخترقنا فتزيد من تخبطنا وشتاتنا وضبابية خياراتنا وعجزنا عن تقبل اختلافنا وتردينا في تخلفنا وانقسامنا بيننا. هل بنا حاجة في هذه اللحظة إلا إلى كتابة إذا لم تقل كلمة حق فعلى الأقل لا تولم لنا بآلامنا ولا تدخلنا في نفق النفاق ولا تورطنا في قصر نظرها أو آنية مصالحها. فأي كتابة إلا تلك الكتابة التي تتلوى كأفعى وتحط على فرائسها كعقاب أو تسكت في كلامها كشيطان أخرس.؟
نحتاج إلى كتابة لا تتشفى بنا ولكنها في نفس الوقت لا ترتكب جريرة تجميل أخطائنا أو تشجيعنا عليها. ففي هذه اللحظة هناك تطورات كبيرة على المستويين الداخلي والعربي والإقليمي والدولي ، فعلى المستوى الداخلي هناك المواجهات الأمنية بخسائرها الفادحة في الأرواح وبالقلق من تطوراتها وبالدعاء الى الله أن يخمد فتنتها في مهدها. كما أن هناك موضوع البيانات الإصلاحية كما يقول موقعوها والموقف منها وما يُقبل منها وما يُنكر عليها. وعلى المستوى الخارجي هناك التصعيد المرعب على الساحة الفلسطينية وعلى الساحة العراقية، وهناك تداعيات موضوع القمة العربية وكذلك ذلك المشروع الخطير للشرق الأوسط الذي لا تزال خطورته تتكشف ويجري البحث في إبعاده القريبة والبعيدة. إن هذا التعقيد هو ما يجعل الكتابة أمرا في غاية الضراوة والدقة والمسؤولية الجسيمة. لأن الكتابة في هذه اللحظة تحتاج إلى الحس النقدي في التحليل ، تحتاج إلى عيون زرقاء اليمامة في حدة البصر ، وتحتاج إلى بوصلة استراتيجية في الرؤى ، كما تحتاج إلى منديل الأمان من القيادة الرشيدة.
وهذا النوع الصعب من الكتابة الذي نحتاجه هو التحدي الذي يحدوني لأن أشعر كلما اقترب موعد تسليمي للمقال بفداحة المسؤولية وبعظم الأمانة التي يلقيها على كاهلي الناحل واجبي الديني والوطني، حبي المبرح لتراب هذا الوطن وولائي للحمته الوطنية.
هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
إلى طفلة
من رغوة الحبر
وحليب البحر
أطلت الحورية
من أحواض النعناع المديني
والجوري الطايفي
غمرتني بفجر وجهها
من شموخ النخيل
وجموح الموج
رشقت القلب
ببريق عيونها
من لون القرنفل
وحرير القز
سكبت سنابل ضفيرتها
في حلكة سهري
إلى هنا كان
كان افتتاني بها
سيكون
دهشة عادية
تندلع عشرات المرات
في عروق الأحباب
لولا أنها أطلقت
من ضحكتها وغضبها
من كلامها وصمتها
من حضورها وغيابها
قبائل منها
لا قبل لقلبي بملاحقة
أطيافها اللامتناهية
فكيف حين سافرتِ
جمعت في حقيبتك المدرسية
كل ما في الرياض من هواء
كيف أشرب قهوة الصباح بدون
عسل أصابعك
من يعيد للكتب مكانها على الأرفف
من يناكفني على غسيل الصحون
ويجرب فينا طبخ (الغداء)
من يقرأ عليَ شعر طاغور
ويعيد كل يوم بشكل جديد
حكاية شهر زاد
من يسأمني بنقد دي إتش لورنس
كيف يا مليكة كوني
في عجلة من لهفتك
ركبت الطائرة
ونسيتِ تعطيني الدواء
فصرت في النهار أعد
الساعات
أستنشق رائحتك
من شرشف الصلاة
وقميصك المعلق
خلف الباب
وفي الليل
أتجرع آلامي
بعد أن اكتشفت أن
نومي ربما بالخطأ
اندس في أمتعتك
وتركني تحت رحمة
مكر الطفلة
ومرحها
الأخاذ
تحية
تحية لوزارة الداخلية ممثلة في سمو الأمير نايف على اللفتة الشجاعة تجاه حريق سجن الحاير سواء على مستوى فتح ملف الموضوع للتحقيق أو تحميل المسؤول عنه مسؤوليته أو في تعويض أهالي ضحايا الحريق ، مع الرجاء أن يشمل ذلك المتضررين أضرارا صحية بالغة منهم.
ونأمل أن تكون هذه البادرة الجريئة بداية تسري عدواها إلى جميع المؤسسات وفي جميع المرافق الوزارية وسواها في الاحتكام إلى القانون والقضاء الشرعي في إحقاق الحقوق وأداء الوجبات لهذا الوطن ومواطنيه.
|