غداة انهيار الاتحاد السوفياتي، تبدلت معطيات دولية كثيرة، فأمريكا سعت لصياغة القرن القادم (الحالي) بنظام عالمي يخدمها ويفرض مصالحها ومفاهيمها على مصالح ومفاهيم الآخرين، وسعت ولا تزال إلى بسط سيادتها على دول العالم وشعوبه بحيث لا تترك مجالاً لأي كلام عن استقلال أوطان، وسيادة دول وحريات شعوب، وقد عبّر فرنسيس فوكوياما كاتب «نهاية التاريخ» في تصريح إلى «الاورينت برس» عام 1992 عن هذا الاتجاه بالقول لقد حققنا في أمريكا أكبر انتصار مع نهاية القرن العشرين: ابادة الشيوعية وسحق العراق، ولا أحد يشك الآن في أن أمريكا هي زعيمة العالم. نحن الأقوى والأعظم.
إن كلام فوكوياما، الذي تحول إلى سياسات يومية عند الإدارة الأمريكية الحالية يناقض كل الكلام الأمريكي عن السلام العالمي ونصرة حقوق الانسان، وحرية المصير ونبذ الحروب، وتصفية العنصرية..
وذلك يشكل مدخلاً فكرياً وثقافياً لتباين الموقف الأوروبي عن الموقف الأمريكي. فأوروبا التي شهدت تحرر العالم ابان القرن العشرين من استعمارها القديم أيقنت أن الشعوب المحررة لا يمكن لها أن تعود مرة أخرى إلى القمقم الاستعماري، وبالتالي فهي لا تجد في السياسة الأمريكية الاستعمارية سوى مشروع فاشل لن يكتب له النجاح على المدى الطويل وان حقق بعض الانتصارات في المدى القصير، وقد ترجم هذا التباين الأمريكي - الأوروبي مراراً في النظرة إلى دور الأمم المتحدة، فيما اوروبا تطالب بدور أكبر للأمم المتحدة في الصراعات القائمة فان أمريكا تعتبر نفسها المرجعية الدولية وليست هيئة الأمم..
لقد سعت أمريكا إلى تعميم فكرة سقوط الصراع الأيديولوجي بين الشيوعية والديمقراطية الغربية لتوهم المجتمعات أن الغرب واحد بقيادتها متناسية أو متجاهلة الصراعات القومية والحضارية بين الأمم.
غير أن أوروبا أدركت أن بداية القرن الواحد والعشرين تحمل في طياتها صراعاً قارياً بدل الصراع الأيديولوجي الذي ساد في النصف الثاني من القرن الماضي، لذلك راحت تزيد من سعيها إلى التوحيد الاقتصادي أولاً ثم إلى التوحيد السياسي ثانياً مما يجعل منها منافساً اقتصادياً ثم سياسياً للولايات المتحدة الأمريكية.
ولأن منطقة الشرق الأوسط تحتل موقعاً استراتيجياً على الصعد الجغرافية والاقتصادية والسياسية وحتى الحضارية فان التنافس الأمريكي - الأوروبي راح يتبلور ويزداد وضوحاً في هذه المنطقة سيما وأن الإدارة الأمريكية الحالية فاقت كل سابقاتها في احتضان الكيان الصهيوني الغاصب، فأمريكا قررت نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس فيما الاتحاد الأوروبي لم يحذُ حذوها.. وأمريكا رحبت بصعود اليمين الصهيوني المتطرف بقيادة نتنياهو أولاً، ثم بقيادة شارون الجزار حالياً، فيما الاتحاد الأوروبي كان يفضل حزب العمل الذي وقع اتفاقيات اوسلو ووادي عربة مع الفلسطينيين والأردنيين.
وأمريكا التي أعلنت عن خارطة الطريق مع الاتحاد الأوروبي وروسيا، ساهمت في تقويض هذه الخارطة حين راحت تدعم شارون في محاولاته اليائسة للقضاء على الانتفاضة الفلسطينية، فيما أوروبا لا تزال تعلن تمسكها بهذه الخارطة، وهي لذلك لم ترض بعزل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات كما رغبت الإدارة الأمريكية، وحتى توني بلير رئيس وزراء بريطانيا، الذي شارك إلى جانب جورج دبليو بوش في غزو العراق، اتخذ موقفاً متقارباً مع الاتحاد الأوروبي تجاه الفلسطينيين أكثر من تقاربه مع حليفته الإدارة الأمريكية.
إن الاختلاف في الموقفين الأمريكي والأوروبي، لم يعد مجرد تحليلات صحفية أو تسريبات دبلوماسية بل اصبح سياسة معلنة ومقلقة للأميركيين، مما دفع بفرنسيس فوكوياما إلى التساؤل عما اذا كان «الغرب» حقاً مفهوماً متماسكاً.. لقد كان المفترض في رأيه أن تكون نهاية التاريخ مكللة بانتصار القيم والمؤسسات الغربية لا الأمريكية فحسب، على نحو يجعل من الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق الخيارين الوحيدين القابلين للاستمرار.. إلا أن صورة عميقة باتت تفصل بين التصورين الأمريكي والأوروبي للعالم.
هذا الاختلاف الأمريكي - الأوروبي يفتح نافذة أمام العالم الثالث وقواه الحية لأن تستأنف مسيرة التحرير فتضافر جهودها لخنق الاستعمار الأمريكي الزاحف تحت يافطة محاربة الارهاب، من خلال محاربة الاسلام والمسيحية لصالح الصهيونية المسيحية التي ترى في الدماء العربية التي تسيل فوق ربى فلسطين يومياً تسريعاً لعودة «المسيح» الذي يؤمن به اتباع هذه الصهيونية المسيحية ومنهم الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش وقبله الرئيس رونالد ريجان.
والمسؤولية الكبرى تقع على عاتقنا نحن العرب، فإذا توحدنا، توحدت من حولنا قوى كثيرة في العالم الثالث أولاً، وفي اوروبا ثانياً، واذا ما استمر تفرقنا فإن خطراً حقيقياً يهدد الاستقلالية الأوروبية نفسها.
لقد نجح جمال عبد الناصر في خمسينيات القرن الماضي في استغلال لحظة التباين الأمريكي الأوروبي فتخلص من الاستعمار القديم، فهل للعرب ان يستفيدوا من التباين الأمريكي الأوروبي حالياً، في ظل تصاعد المقاومة العراقية ضد المحتل الأمريكي، وتواصل الانتفاضة الفلسطينية ضد آلة الحرب الصهيونية؟
ان الأوروبيين يحتاجون العرب لضمان مصالحهم لا سيما في النفط، والعرب يحتاجون الأوروبيين لتخفيف الاندفاع الأمريكي الاستعماري، مما يسهّل لقاء المصالح.. وللوصول إلى ذلك لا بد من استراتيجية عربية تتولاها الدول العربية الرئيسية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية ومصر وسوريا وكل تأخير في رسم وتنفيذ هذه الاستراتيجية يطيل أمد الاحتلال الصهيوني في فلسطين وأمد الاحتلال الأمريكي في العراق ويزيد التهديد الاسرائيلي والأمريكي لسوريا والمملكة العربية السعودية ولبنان ومختلف الأقطار العربية.
* مدير المركز الوطني للدراسات |