بين الحياة والموت يتجلى الحق، وتستنفر القلوب جزعها، تدخره دائماً للحظة التي لا جدال فيها، ولا مناص عنها، ولا حيلة دونها إلا التسليم بأمر الخالق الذي يعطي ويأخذ، ويودع ويسترد، ويملي ويكتب، تلك اللحظة التي لا ترد على البال كثيراً، مع انها اكثر اللحظات ملازمة للروح والجسد..! إنها لحظة مغادرة الحياة، الى حياة أخرى، فيها يكون الحكم الفصل، والمغفرة و التكريم لهذه الأمة التي ارتضت الإسلام لها ديناً، ومحمد صلى الله عليه وسلم لها رسولاً، وقبلهما رضيت بالله العظيم رباً واحداً لا شريك له سبحانه جل وعلا. ويترك الراحلون بيننا ظلالهم، نحاذر في خطواتنا ونحن نسير ان نطأها، لذلك غالباً ما تكون تلك الخطوات مرجوجة تعبة.
ويتركون في آذاننا اصواتهم، تنادينا وتحدثنا وتقص علينا، في سيل من من الحروف التي ان تكن قد غادرت حناجرهم، فهي لا تبرح ذاكرتنا مطلقاً، ويتركون بين أيدينا عطاءاتهم، التي نتوقف في العادة عن عدها، أو تقييمها، لأنها تصبح من أغلى ما نملك، وما ندخره ليومنا وغدنا.. عطاءات ملؤها الجهد والعمل والتجربة والخبرة.. حتى وإن كانت أعمار أهلها قصيرة! هكذا كان عمر المرحوم الدكتور عبدالسلام برجس عبدالكريم -رحمه الله - الذي اختاره واصطفاه ليكون إلى جواره، هكذا كان قصير العمر مديد المعرفة والعطاء، بينه وبين الله عهد المسلم العامل الذي لا يُسلمُ عقيدته ولا أمانته إلا لبارئه تعالى. رحل عنا عبدالسلام البرجس، وتركنا بين مصدق وغير مصدق إذ لا تزال عناوين كثيرة تنتظر طلعته فيها ليثريها عدلاً وعلماً ونبلاً مما حصدت يداه في مشواره القصير، وما بخلت في وضعه على مائدة من حوله. رحم الله الشيخ عبدالسلام البرجس الذي قضى ولنا جميعاً عنده أوطار لم نقضها.. فنحن لا نزال واثقين أننا على موعد معه في الحوار الفكري القادم، وطلابه لا يزالون ينتظرونه كعادتهم في قاعات جامعتهم، أمامهم مذكراتهم وفي أيديهم أقلامهم، لكنهم هذه المرة يضيفون إلى ذلك دمعاً حارقاً في عيونهم، وحزناً تكابد منه قلوبهم.
وأنا شخصياً لا أزال أنتظر زيارة المرحوم هو وحرمه التي وعد بأن تتم في أقرب فرصة.. التي وان لم تكن قد تمت لسرعة يد الموت، فإنني أراها قد تمت برؤيتي لوجهه الكريم سمحاً، محدثاً، معتذراً، متواضعاً، طيباً.. فطوبى له وهو جار ربه، الذي نسأله تعالى أن يمن عليه بالعفو والمغفرة، وأن يدخله الجنة مع انبيائه واصفيائه.. إنه غفور رحيم، عفو يحب العفو، محب يحب أمته التي من أجلها، ولها أعد جناته وغفرانه.
فاكس 2051900 |