تحدثت يوم أمس الأول عن بناء الفكرة في داخل المقال، وحاولت أن أميز بين الفكرة الجامدة المفروضة على المقال وبين الفكرة التي تتخلّق أثناء الكتابة وتكون جزءاً من المقال لا يمكن فصلها عنه، واليوم أبدي وجهة نظري في الزاوية التي يلقي منها القارئ نظره على المقال.
الذي تعامل مع برامج الرسومات في الكمبيوتر مثل برنامج الفوتو شوب لا شك أنه سمع بالطبقات (LAYERS) .. معظم الصور التي تعالجها هذه البرامج تتشكّل من عدة طبقات كل طبقة تشكّل جزءاً من اللوحة وتتعدد الطبقات حسب تعقيد اللوحة، وهذا قريب من فكرة طباعة الصور الملونة في الجريدة، فكل صورة ملونة تشاهدها في هذه الجريدة تشكّلت من عدة بليتات (لوحات حساسة) كل بليت يمثّل لوناً من الألوان الأساسية.. وهذه لابد أن تطبع فوق بعضها البعض حتى تعطيك الصورة الكاملة.
وتقنية كتابة المقال الاحترافي لا تختلف عن ذلك، فالمقال يتشكّل من عدة طبقات.. كل طبقة تشكّل خلفية للطبقة التي أمامها.. كلما ازدادت جودة المقال أو العمل الفني كلما ازداد عدد الطبقات.. إذا أخذنا هذا المفهوم في الاعتبار يكون هناك نوعان من المقالات.. هناك المقال الباهت ذو الطبقة الواحدة وهناك الملون الذي يتمتع ببعض العمق، والمقال الباهت هو الكلام المباشر الفج الذي لا يجد قراء إلا إذا أسلم ذاته للتيار السائد واستند على قوته وأخلي له المجال بسبب الرقابة على الآخر، وهذا النوع الفج من المقالات هو النوع الذي يتعامل معه البسطاء الذين رهنوا عقولهم عند الآخرين، لأن من صاغ أفكارهم وقولبها تركها عارية من القدرة على التفكير وعلّقها رهينة سطح الكلام.. لا يلمس من الأشياء إلا غلالتها الخارجية.. فتراه يقرأ الكلام غير المباشر بشكل مباشر. يقرأ الطبقة الأخيرة من المقال المتظاهرة على سطح النص ويترك ما يبوح به هذا النص من إشارات متوفرة في الطبقات الأخرى، لأن ملكته في القراءة لا تدرك أبعد من الطبقة الأولى.. لا تصله الدلالات.. لا يميز بين المقال الساخر والمقال الجاد.. لا يحلل التوريات.. لابد أن يشرح له أستاذه أو شيخه ويقول له اضحك فيضحك ويقول له ابك فيبكي.. كل شيء في حياته يجب أن يشرحه له أحد ويفتيه فيه، لا يقوى على الغوص في المعرفة وحيداً لأنه حرم نعمة الحرية والاستقلال عن معلميه وشيوخه.
أشاهد في بعض القنوات أحياناً مجموعة من الشباب يجلسون على الأرض كما كانوا يفعلون في الكتاتيب في السنين الخوالي.. أمامهم رجل بالقيافة المعتادة يقرأ عليهم من كتاب في يده وهم يحملقون فيه وكأنه يقرأ عليهم من كتاب لا يملكه غيره، بينما هذا الكتاب موجود في السوق ويستطيع أي من الجالسين أن يشتريه ويقرأ منه ما يشاء بنفسه دون الحاجة لوسيط يقرأ عليهم وهم مستغرقون، فإذا ضحك الرجل ضحكوا وإذا خنقته العبرات انتظروه يبكي ليبكوا مثله.
عندما كتبت مقالاً عن (ستار أكاديمي) وهو مقال ساخر وبسيط وموجه لكل القراء، واجهت سيلاً من الرسائل المؤيدة والناقدة وهذا شيء أتلقاه دائماً واعتدت عليه، ولكني تلقيت بالإضافة إلى هذه، مجموعة أخرى من الرسائل تدينني أشد أنواع الإدانة.. فقد فهموا من مقالي أنني أعد الخلاوي مندوبنا في ستار أكاديمي واحداً من الأبطال القوميين وقد برهن أصحابها أنهم غير قادرين أبداً على أبسط أنواع الفهم.
ليست المشكلة في الفهم وعدم الفهم فهذه ليست القضية، ولكن القضية أن يكون عدد هؤلاء كبيراً ويتحدثون بنفس اللغة والنكهة والتوجه.. معظمهم كما فهمت من فئة الشباب، مما يعني أن هناك كتلة من الشباب المتعلم لا يستطيع أن يقرأ مقالاً ساخراً ويفهمه.. لا يستطيع إعادة بناء المقال في دماغه بشكل سوي، ثم يأتي من يقول إن مناهجنا لا تحتاج إلى إصلاح .
على فكرة.. هذا ليس المقال الوحيد الذي أواجه فيه مثل هذه الدعاوى حيث سبق أن قلت إني أصبحت ملزماً أن أكتب المقال اليوم وأشرحه غداً، حتى إني فكرت أن أفتح زاويتين في نفس الجريدة، واحدة تشرح الأخرى، ولكني خشيت أن أفتح ثالثة تشرح الثانية ثم أفتح رابعة تشرح الثالثة وأخيراً أستولي على الجريدة والله المستعان.
فاكس 4702164
|