ضمن فعاليات البرنامج الثقافي لمكتبة الملك عبد العزيز العامة؛ وبالتعاون مع الهيئة العليا للسياحة؛ ألقى الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلي، مدير عام مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية بإستنبول، التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي محاضرة عن (التراث الحضاري الإسلامي.. أهميته في عالمنا المعاصر ودور مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية بإستنبول: (إرسيكا) في إحيائه)، بحضور صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز، الأمين العام للهيئة العليا للسياحة، والأستاذ فيصل بن عبد الرحمن بن معمر، المستشار في ديوان سمو ولي العهد، والمشرف العام على المكتبة ولفيف من رجال الثقافة والمهتمين، وذلك مساء يوم الاثنين 15 صفر 1425هـ بقاعة الملك عبد العزيز للمحاضرات في مركز الملك عبد العزيز التاريخي في المربع.
وقد أشار أوغلي في بداية محاضرته إلى أن كل مجتمع يُعرف بهوية خاصة تميزه عن غيره من المجتمعات، كما تتشكل مكانته في العالم وعلاقاته بالمجتمعات الأخرى طبقاً لتلك الهوية، ويرتبط الاعتراف به وبحياته بهويته هذه التي كشف عنها موضحاً أن الثقافة التي تتطور وتتراكم على مدى التاريخ لشعب أو لمجموعة من الشعوب، تمثل أيضاً التراث الحضاري بشقيه المعنوي والمادي ومن هنا يشكل التراث الثقافي أسس الهوية في المجتمعات.
وأكّد على بعض خصائص التراث الحضاري الإسلامي في الماضي والمستقبل، مشيراً إلى أنها تكتسب أهمية كبرى في الاتجاه نحو ما عُرف ب(العولمة) التي في ظلها اطّرد حجم المعلومات وتجاوز رؤوس الأموال للحدود، وتشابكت العلاقات بين البشر وزادت التكتلات الدولية، مما أسفر عن هاجس أن تكون هناك عولمة أيضا في المجال الثقافي، لتسيطر ثقافة الغرب على العالم، ومن ثم تزول الفروق الثقافية بين المجتمعات، مشيراً إلى أن ثمة أفكاراً متعددة حول التأثير الذي سيكون لهذا الاتجاه على الهويات الثقافية للشعوب والمجتمعات.
وأعرب مدير عام مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية بإستنبول عن قلقه للتراث الثقافي الذي بدأ يتحول إلى موضوع في السياسية الدولية كونه إشارة تشي بالهوية الثقافية للمجتمعات، ويصبح بالتالي هدفا عند اندلاع الحروب، مستشهداً بالتجارب الأليمة التي عاشها وما زال بعض أجزاء من العالم الإسلامي، مثل تجربة الشعب الفلسطيني الذي يتعرض للظلم والدمار عندما تحطم آثاره التاريخية، بشكل يومي حيث جرى تخريب وهدم العديد من المعالم التاريخية والمعمارية التي تشكل مجموعها الشخصية الثقافية الفلسطينية، فضلاً عن هدم المساجد والخانات والبيوت التقليدية والحمامات العثمانية والأسواق القديمة والمدارس، مما يستدعي تدخلاً دولياً لحماية ذلك التراث الثقافي؛ وكذا ما حدث في البوسنة والهرسك؛ حيث تجاوز الهدم التراث الثقافي إلى التراث الثقافي المكتوب، حيث رأينا في اليونان وبلغاريا وصربيا والجبل الأسود ثم المجر برامج منظمة تخفي أغراضاً قومية متطرفة؛ التي رأت في كل بناء ذي طابع إسلامي هدفاً محكوماً عليه بالهدم، ولم تمض فترة زمنية قصيرة حتى هدمت آلاف الجوامع والمباني والمكتبات، وأزيل كل أثر لها! وكذلك الهند (المسجد البابري نموذجاً).. ودعا أوغلي إلى المبادرة بعملية الحصر والتعداد والحماية للتراث الثقافي والحضاري الإسلامي الذي ظل حتى الآن في مكانة متدنية لدى المنظمات الدولية المعنية (36) أثراً فقط من بين قائمة التراث الثقافي العالمي التي اعتمدتها اليونسكو (754) أثراً منها، (582) أثراً ثقافيا؛ و(149) أثراً طبيعيا، و(23) أثرا في أشكال مختلفة، وهي موزعة جميعها على (129) دولة، وهناك (30) دولة تضم (107) من تلك الآثار ولا حمل عناصر الثقافة الإسلامية إلا (36) أثراً فقط، وتوجد عمائر إسلامية مهمة أيضا في الدول الأخرى غير الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، وهذه الآثار تدخل هي الأخرى ضمن القائمة المذكورة (الحمرا؛ غرناطة؛ تاج محل؛ مدينة قازان العتيقة) والآثار الإسلامية والمدن التاريخية التي تضمها قائمة الأمم المتحدة اللازمة حمايتها ورعايتها ما زالت هي الأقل عدداًّ!
دور مركز (إرسيكا) في حماية التراث الثقافي الإسلامي
وحول دور الدول الإسلامية في حماية التراث الثقافي؛ أشار أوغلي إلى أن الدول الإسلامية أدركت تلك الحاجات وخطت في ذلك خطوات ملموسة شهدناها في ثمانينيات القرن العشرين، إذ جسدت التعاون الدولي لحماية التراث الحضاري الإسلامي في مؤسسة قائمة؛ حيث تم تأسيس مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية (إرسيكا) للقيام بالبحوث والأنشطة في المجال الثقافي، وبدأ عمله في عام 1400 - 1980م، كمركز تابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، الذي اضطلع بالعديد من البحوث العلمية، ويمارس النشر فيها، ويعقد المؤتمرات والندوات الدولية، وينظم المعارض ويمارس أعمال الترميم ويضع البرامج التدريبية إسهاما في الحفاظ على الثقافة والحضارة الإسلامية وحماية تراثها العريق والتعريف به، مشيراً إلى أن مستوى عاليا من أعماله قد ظهر بتشكيل اللجنة الدولية للحفاظ على التراث الحضاري الإسلامي عام 1403هـ - 1983م برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن فهد بن عبد العزيز - رحمه الله - وذلك للعلم بصورة خاصة في موضوع التراث الثقافي وتكون تابعة هي الأخرى لمنظمة المؤتمر الإسلامي، ويتولى مركز إرسيكا، مثمناً الجهود التي بذلها سمو الأمير فيصل رحمه الله وإيمانه العميق بأهمية التراث الإسلامي.
وأوضح من الأعمال التي أنجزها مركز أرسيا، (جائزة الملك فهد للتصميم والبحث في العمارة الإسلامية)، وهي المسابقة التي تم تنظيمها بين عامي 1405 - 1406هـ، وكانت حدثاً مهما جمع بين المتخصصين في البحث والتصميم على السواء، فضلا عن الأنشطة العلمية التي اضطلع بها المركز سيما تدريب المتخصصين في هذا الخصوص، حيث تم وضع برنامجين تعليميين في ترميم الوثائق الأرشيفية والمخطوطات وأساليب العناية بها وحضرها مندوبون من مختلف الدول الإسلامية؛ إدراكاً منه للحفاظ على التراث الثقافي المدون: فضلا عن مختبر لتدريب وتنشئة المتخصصين في مجال حماية المخطوطات التاريخية وترميمها تلبية لاحتياجات الدول الإسلامية في هذا الخصوص، يخطط لإقامته المركز قريباً.
وأشار مدير عام مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية بإستنبول (إرسيكا) إلى أن منظمة المؤتمر الإسلامي بمراكزها المختلفة، ومنها إرسيكا، هي المنظمة الدولية الوحيدة التي تجتمع فيها دولها برباط ثقافي وحضاري مشترك، ويعد المركز الدولي الوحيد الذي ارتضى العمل حول فنون تلك الحضارة واحدة من أنشطته الرئيسية، فضلاً عن الدور الذي يضطلع به المركز في تحريك فعاليات الحوار الثقافي بين العالم الإسلامي والغرب من خلال الانفتاح على المؤسسات الأكاديمية الغربية وتنشيط علاقات التعاون معها سعياً إلى توضيح وفهم أفضل لصورة الحضارة الإسلامية وتشجيع الدراسات حولها بهدف لإثارة المزيد من الاهتمام ودعم فعاليات الحوار؛ فقام بإعداد مكتبة متخصصة تضم أهم الكتب والإصدارات في التاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، وأنشأ أرشيفاً خاصاً بصور المعالم التاريخية والتراثية في العالم الإسلامي، وفي مجال الفنون الإسلامية ينشر الكتب التاريخية والتراثية في العالم الإسلامي، فضلاً عن عقد الندوات والمؤتمرات وتنظيم المعارض والمسابقات.
برامج في حماية التراث المعماري الإسلامي
وعن برنامج حماية التراث المعماري الإسلامي، ذكر أوغلي أن مركز إرسيكا، يعنى عناية خاصة في هذا الخصوص، حيث يحتل مكانة متميزة ضمن برامجه، مشيراً إلى أنه في السنوات الأولى وفي إطار اللجنة الدولية للحفاظ على التراث الحضاري الإسلامي في ترميم جامع دماك في إندونيسيا، اكتسب المركز تجربة أخرى في هذا المجال عندما قام بترميم المباني الثلاثة التي يحتلها المركز داخل سراي يلديز في إستنبول، موضحاً أن المركز يقوم منذ عام 1414 - 1994م بصورة مكثفة في إعداد المخططات والمشروعات المعمارية في موضوع ترميم وحماية التراث الإسلامي الذي هدم في البوسنة والهرسك على المستوى النظري، فضلاً عن أنشطته المعمارية الفعلية الجديدة هناك في مناطق أخرى من البلقان، كبلغاريا.
وعن السياحة الثقافية، أشار المحاضر إلى أنها من أهم الجوانب التي تديرها الجهات المعنية في تركيا وليس مركز إرسيكا وغيره من مراكز البحوث، هو قطاع السياحة الثقافية التي يعمل المركز على دعمها من خلال الإعلام الإلكتروني الذي يتاح اليوم للإنسان في مكتبه ومنزله، ويعرف بالسياحة الإلكترونية (Amchair Tour Or Virtual Tourism) وكذلك إقامة المتاحف فضلاً عن الزيارات السياحية الفعلية حتى تساعد على التعريف بآثار التراث الثقافي وتنمية الوعي به في المجتمعات، مشيراً إلى أن مركز إرسيكا هو المؤسسة الأولى داخل منظمة المؤتمر الإسلامي التي قامت بعقد المؤتمرات في العديد من الدول الأعضاء الممتدة بين آسيا وأوروبا، في بروني، وألبانيا، وأوغندا وتتارستان، وفي دول أخرى غير أعضاء مثل بلغاريا والمجر، وسيقوم في المستقبل القريب بعقد مؤتمر في رومانيا والدول الأخرى، ولسوف يعمل المركز من بعد ذلك على الخطوط الرئيسة التالية:
- توجيه جهود التعريف بالتراث الثقافي وتعزيز الحوار بين الحضارات، والقيام لهذا الغرض- داخل العالم الإسلامي وخارجه - بالأنشطة والفعاليات التي من شأنها التعريف بهذا التراث والكشف عنه مع مرتكزاته التاريخية.
- يعلق المركز آمالاً كبيرة على عقد (مؤتمر الآثار الإسلامية) عام 2005م: حيث يضع مبادرة مهمة ليكون المؤتمر الأول في ذلك المجال ويسعى المركز لإقراره وترسيخ وجوده حتى يكون منتدى قادرا على الاستمرار بنفسه فيما بعد.
- يسعى المركز هو الآخر لوضع قائمة بالتراث الثقافي إلى جانب القائمة الخاصة بمنظمة اليونسكو حتى يمكن التثبت من آثار التراث الإسلامي وحصرها، وفي هذا الخصوص، أشارت توصيات مجلس إدارة المركز إلى ضرورة وضع مشروع بحثي واسع حول عناصر التراث الثقافي المختلفة في فلسطين.
وأكد المحاضر على أن مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية (إرسيكا) التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، جعل من التراث الحضاري الإسلامي ساحة لعمله، ويقوم إلى جانب سياسات الدول نفسها بنشاطه في البحث والنشر وأعمال الترميم؛ وبذا تكون الدول الإسلامية قد أخذت مبادرة مثالية في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي.. وفي هذا الوقت الذي راحت تتبلور فيه الفروق بين الثقافات والحضارات في مسيرة العولمة. يرى المركز أن التراث الثقافي بدأ يتحول إلى موضوع نقاش يؤثر بشكل مطرد في العلاقات الدولية.. ولا خلاف في أن تحول الآثار التراثية إلى هدف للهدم والتدمير بشكل مطرد في المرحلة الأخيرة قد أصبح امراً يفرض على الجميع مضاعفة العمل والإسراع في عملية الحصر والتسجيل؛ لأنه ما زال هناك نقص كبير في تلك الساحة، سيما أن ثمة مجموعة من المخطوطات ومن المقتنيات التي لم تصل إلى المتاحف في كثير من مناطق العالم الإسلامي مما يحتاج أيضاً إلى عملية فهرسة.
واختتم المحاضر محاضرته بقوله: إن تعزيز التعاون الدولي من أجل حماية التراث الحضاري الإسلامي هو الوسيلة لدعم التضامن فيما بين الدول الإسلامية ويمهد أرضية مشتركة للتحرك الجماعي لمواجهة التطورات الثقافية في العالم.
|