ليس مصادفة، وإنما هي مشيئة الله رب العالمين القائل في محكم كتابه الكريم {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (23) سورة الأحزاب.
لا يخفى على أحد أن الترتيب لإقامة الملتقيات والنشاطات العلمية، أو السياسية، أو الثقافية والفنية، ليس بالأمر اليسير، بل هو عمل كبير وشاق، ويحتاج إلى جهود جماعية دؤوبة ومكثفة، وخصوصاً إذا تعلق الأمر بإقامة معرض شامل تجتمع فيه كل تلك الاختصاصات، مثل: (معرض القدس الشريف وفلسطين)، القائم حالياً في مدينة الرياض، وتحديداً في صرحٍ بحثيٍّ، وعلميٍّ، وثقافيٍّ، يحمل اسم فارس القدس وشهيدها، الفيصل بن عبدالعزيز - رحمه الله - ذلكم الصرح هو (مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية)
لقد شاء الله سبحانه وتعالى - وبعد أن تم التأجيل لأكثر من مرة منذ ما لا يقل عن العام - أن يستقر الرأي على تحديد موعد افتتاح هذا المعرض ليكون في الثامنة والربع من مساء يوم الاثنين، غرة صفر لعام 1425هـ الموافق 22 مارس- آذار 2004م، وبالفعل، امتلأت القاعة (قاعة الفن الإسلامي بالمركز) بالمعروضات، صور بمختلف الأحجام والألوان والأشكال، معروضات وصور معبّرة وواضحة، تحكي بالدلائل والبراهين قصة فلسطين العربية منذ فجر التاريخ، منذ أن عُرفت بأرض كنعان نسبة إلى العرب الكنعانيين، ثم الهجرات العربية العديدة، أو كما يطلق عليها التجمعات الفينيقية والكنعانية، من جنوب الجزيرة العربية، ثم دخول المسلمين إلى القدس في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لنصرة إخوانهم العرب أصحاب البلاد الأصليين وتحريرهم من حكم الغزاة الرومانيين.
معروضات وصور لاكتشافات أثرية حديثة تشير بوضوح إلى أن تاريخ العرب في فلسطين يعود إلى ما قبل ستة آلاف سنة، وتؤكد ذلك الكتب السماوية وبخاصة التوراة، أي قبل أن يهاجر إبراهيم عليه السلام من العراق إلى مصر مروراً بفلسطين والقدس الشريف، وقبل ألفين وستمائة سنة من ظهور الديانة اليهودية.
معروضات وصور تشير إلى أن القدس صارت مدينة في بداية العصر البرونزي حين بناها الكنعانيون، وتؤكد أن أول من اختط مدينة القدس وبناها هم العرب اليبوسيون، وقد أطلقوا عليها اسم (يبوس)، ثم عُرفت ب(أورسالم أو يوروسالم أو أورشليم أو يوروشليم)، وكلها تعني مدينة السلام، وكلمة (أورشليم) ليست عبرية كما يُخيّل إلى البعض، بل هي كلمة كنعانية آرامية (عربية)، أطلقها العرب على القدس قبل أن يكون لبني إسرائيل لغة، وعندما سمّاها داود عليه السلام مدينة داود لم يجد لها اسماً غير الاسم الكنعاني، لأن اللغة العبرية لم تكن قد عُرفت بعد، فالتاريخ يؤكد أن حكم اليهود للقدس لم يدم أكثر من سبعين سنة متواصلة، وذلك في عهد داود وسليمان عليهما السلام، كما حكموها لفترات متقطعة لم تتجاوز أربعمائة سنة، وفي مقابل ذلك حكم العرب القدس لأكثر من أربعة آلاف ومائة وخمس وستين سنة، إضافة إلى أنهم هم الذين أنشؤوها، أما بقية الفترة التي تقرب من ألف وثمانمائة سنة، من عمرها الذي يتجاوز الستة آلاف سنة، فقد كان الحكم فيها لغزاة من الآشوريين والفرس واليونان والرومان والصليبيين، وبذلك يكون الحكم العربي للقدس هو الأصل وغيره هو الاستثناء، إذ تواصل الوجود العربي في فلسطين في كل تلك الفترات دون انقطاع حتى يومنا هذا.
معروضات وصور تقول علانية وبثقة وثبات لا، وألف لا، للتنازل عن أي شبر من أرض فلسطين، وإلا عاقبنا التاريخ، وعاقبتنا الأجيال القادمة، لأننا ببساطة شديدة مؤتَمَنون، ولنا شرف الرباط في أرض الرباط، ولو فعلنا ذلك نكون قد وضعنا أول بصمة خزيٍ وعارٍ في جبين أمّتنا على مر العصور.
معروضات أثرية، ووثائق تاريخية، ومخطوطات أصلية، ومسكوكات معدنية، وخرائط جغرافية، وطوابع بريدية، وألبسة فلسطينية، تضرب في عمق التاريخ، وكلها تذّكر الناس كافة، وبالأخص غير العرب، بالحق العربي الراسخ في أرض فلسطين، وتضع أمام أعينهم كيف أن المعتدي الغاصب تحول إلى صاحبِ حقٍ وسيّدٍ يجلد بسياطه أصحاب الأرض الحقيقيين ويطردهم، ويسلب ممتلكاتهم، ويعيث في الأرض فساداً، ويُغير معالمها ليخدع نفسه أولاً ثم البُلهاء من حوله.
معروضات وصور تدعو بصوت جهوري كل صاحب فكر وضمير، وكل مسؤول عن إعداد البرامج في التلفزيونات والقنوات الفضائية والإذاعات، وكل ما يلزم: قلم صادق ولسان فصيح، وزيارة واحدة تكفي ليصبح بعدها من المجاهدين العاملين من أجل فلسطين.
وهي من جهة أخرى معروضات وصور تحكي الواقع المرير والمعاناة القاسية التي يعيشها الشعب الفلسطيني تحت نير الاحتلال الصهيوني الغاشم، وعلى مرأى ومسمعٍ من العالم بأسره، الآلاف من الشهداء وعشرات الآلاف من المصابين، ويزيد على ذلك من الأسرى والمعتقلين، بيوت مهدمة، مزارع مقطعة، طرقات مدمرة، سماء أفسدتها الطائرات الحاقدة، وأرض أصابتها في طهرها دبابات متوحشة، جيوش بأعتى السلاح مزودة، بنادق! قنابل! رصاص!، وجدار عنصري عازل، ودعم لا محدود من قائدة العالم وزعيمته العظمى أمريكا.
وفي المقابل شيخ فلسطيني مؤمن صابر ينظر إلى السماء يبتهل، وامرأة عظيمة تحمل بندقية وفي عينيها بريق قهر وشرر، وهامة طفل صغير شامخ صار بطلاً في يده حجر!!
الدعوات لحضور الافتتاح وزّعت!!
وسائل الإعلام قامت بدورها المعتاد!!
حان الموعد!! أصبح الصباح!!
وجاء النبأ!! إنه نبأ عظيم!!
بعد صلاة الفجر!!
شارون اللعين يقود عملية اغتيال الشيخ القائد البطل الشهيد أحمد ياسين!!
اليوم الافتتاح!! وقاعة العرض في أوج جاهزيتها!! فما العمل!؟؟
لا وقت للتفكير.. يُعاد الترتيب من جديد!، وتُشكّل خلية بشرية يقودها الأمين العام للمركز، الأستاذ الدكتور يحيى محمود بن جنيد، ومن خلفه شباب انتفضوا من داخلهم من هول النبأ، استنفروا طاقاتهم، نجحوا في إزاحة الحزن عن قسمات وجوههم ليستقر في وجدانهم، وانطلقوا لتشييد عرس جديد يُضاف إلى أعراس فلسطين، فريق يجمع من الصور ما هو جديد، وفريق يحاول إعادة ترتيب المكان، هناك حاجة لجناح مجيد، لرجل كان بالأمس قعيداً، واليوم يطير بجناحي أمة تزفّه باسم الشهيد، ولكن قاعة العرض محشوة عن بكرة أبيها بالمعروضات، ولا مجال مطلقاً لاستبعاد أو استبدال أي معروض، فكل لوحة أو صورة لها الحق في العرض، وهو حق مقدس كقدسية جميع الحقوق الفلسطينية وفي مقدمتها وعلى رأسها حق العودة! فما العمل إذن؟ جاء القرار، يُضاف للقاعة مدخلها الرئيس، والمدخل الرئيس يليق بشيخ الشهداء وكبيرهم وأميرهم وحبيبهم، رمز فلسطين الخالد الشهيد أحمد ياسين، هكذا كانت مشيئة الله جلّ في علاه، أن يكون الشيخ الشهيد في مقدمة المستقبلين لزائري معرض القدس الشريف وفلسطين، وهكذا يشاء الله سبحانه وتعالى أن يقف شيخنا قويّاً عزيزاً شامخاً وبلا كرسي، يقف بابتسامته المشرقة، وبلحيته المباركة، وبإيمانه الراسخ، وبصبره وعزيمته، وبدمائه الزكية الطاهرة، يستقبل كلَّ الزائرين، أمراء، وعلماء، ووزراء وسفراء، وجمعاً غفيراً من أبناء الشعب السعودي العريق، ومثله من المقيمين، والكل أجمع على قلب رجل واحد ودون سابق ترتيب على تحويل المعرض إلى بيت عزاء، كلهم حزين، وكلٌّ يصافح الآخر معزّياً ومواسياً، وجميعهم يحتاج إلى من يعزّيه ويواسيه.
وصدق الله العظيم، {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (169) سورة آل عمران، نعم، شيخنا حي يرزق، لم يمت ولن يموت، بل يتنقل رمزاً يُزين الأكتاف من جسد إلى جسد، وروحاً ترفرف فوق كل المناسبات من حدث إلى حدث، ورسماً يُوقظ عقول الشعوب وأفئدتهم من بلد إلى بلد، واسماً عذباً تتلذذ به جوارحنا وألستنا، وهو على سمع الأعداء نار ولهب.
الجدير بالذكر هنا أن مدخل قاعة المعرض، أي الجناح الخاص بشيخ الشهداء أحمد ياسين، متاح للزائرين على مدار الساعة، أما أجنحة المعرض الأخرى فتفتح أبوابها للزائرين في فترتين، صباحية من التاسعة صباحاً إلى الواحدة ظهراً، ومسائية من الساعة الرابعة عصراً إلى العاشرة مساءً، طيلة أيام الأسبوع، وقد خُطط للمعرض الاستمرار حتى 29 صفر 1425هـ الموافق 19 إبريل-نيسان 2004م.
ولكن، وأمام هذه الأعداد الهائلة من الزائرين، وأمام رغبات مُحبّي الشهيد، أظن أن النية تتجه نحو التمديد لشهر آخر أو ربما يزيد.
رحم الله أحمد ياسين.. رحم الله الشيخ.. رحم الله الحبيب.. رحم الله الشهيد.
11/2/1425هـ - 1-4-2004م.
عادل علي جودة
|