ها نحن في وطننا العربي الكبير.. أصبحنا وأمسينا؛ ونحن لا همّ أو حديث لنا؛ إلا (القمة العربية) التي تراجعت في تونس؛ فحطت في القاهرة، ولكنها ما زالت معلقة بين العاصمتين العربيتين الشقيقتين!
* لماذا هذا الصداع الذي سميناه (قِمَّة)؛ ثم جلبناه إلى رؤوسنا ؟!
* كان العرب يفرقون في لغتهم بين (القِمَّة)؛ و(القُمَّة).. ولعلهم ما زالوا يفعلون ذلك!
* كانوا يقولون: إن (القِمَّة) بالكسر هي: أعلى الرأس، وأعلى كل شيء. وهي جماعة الناس. ورأس الإنسان. ومن هنا كان الصداع. قال شاعرهم:
ضخم الفريسة.. لو ابصرت (قِمِّته)
بين الرجال.. إذاً شبهته الجبلا
* وكانوا يقولون: إن (القُمَّة) بالضم هي: ما يأخذه الأسد بفيه..! أو المزبلة. انظروا الفارق.
قال أوس بن مغراء الشاعر:
قالوا: فما حال مسكين؟ فقلت لهم:
أضحى (كقُمَّة) دارٍ بين أنداء
* ومثل (القِمَّة)؛ القامَة بالفتح، والقُوميَّة بالضم - لا الفتح - ثم (القَمَامَة) التي تعني: جماعة القوم. والقُمَاقِم من الرجال؛ هو السيد الكثير الخير، الواسع الفضل. والقُمقَام والقُمقُمان تعنيان: العدد الكثير.
* أما عددنا نحن عرب هذا الزمان؛ فهو والحمد لله كثير. نحن جميعنا قمقمان؛ نتوسد مركز الأرض بين خليج ومحيط، من ماء إلى ماء، ومن تطوان إلى بغداد، ليس منا إلا متقمقم من قمقمان..!
* لماذا نلهث وراء سراب ما يسمى بالقمة؛ ونحن كلنا قَمَاقِمَة..؟!
* ولماذا نبتئس؛ إذا تفرق منا قمقمان؛ وتأجل لنا عقد قمة..؟!
* بل ما بالنا لا نفرق بين خداع البيانات الختامية؛ ووهم النجاحات القممية؛ وبين الانتصار على الذات الوهمية، وتجاوز مراحل الأحلام والإيهام بالذات الفوقية..؟!
* انفض جمع القمقمان العربي في تونس مؤخراً؛ لسبب بسيط لا يدعو إلى النحيب والعويل، فما نصَبَه قمقام من العرب من محزنة اثر ذلك؛ لا يعدو كونه مردحة للشاتمين، ومفرحة للشامتين، وملطمة للمتلائمين.
* أعتقد.. أن هذا السبب البسيط؛ ليس أكثر من شعور مسؤول؛ بدأ يتشكل عند أهل الحل والعقد في جامعة العرب، فهم اليوم ولأول مرة في تاريخهم؛ على أعتاب مرحلة جديدة من الوعي العربي؛ الذي انتظرناه طويلا؛ فجاء اليوم ليولد من تونس على ما يبدو.
* هل أهل (ساس يسوس)؛ هم فعلا يدركون هذه الحالة الصحية التي تعتريهم..؟!
* ربما.. أو.. ليت؛ ولعلّ
* تعالوا نتتبع حِذفاً؛ من تاريخ جامعة العرب وقممهم على مدى ستين حولا؛ فهذه مناسبة نعرف من خلالها؛ موقفنا اليوم من واقعنا.
* انطلقت فكرة الجامعة العربية؛ من اللجنة التحضيرية للمؤتمر العربي العام؛ المنعقد بالإسكندرية (25 سبتمبر - 7 أكتوبر 1994م)، الذي أعلن عن وثيقة تأسيس سماها: (برتوكول الإسكندرية).
* بعد خمسة اشهر على صدور البروتوكول إياه، تأسست الجامعة العربية في (22 مارس 1945م). او هكذا قيل. أسستها سبع دول عربية، كانت في تلك المرحلة؛ دولا (مستقلة) وهي: (سورية - شرق الأردن - العراق - السعودية - لبنان - مصر - اليمن). ثم انضمت إليها بعد ذلك: (ليبيا - السودان - المغرب - تونس - الكويت - الجزائر). ولكن ميثاق تأسيس الجامعة، لم يُصادق عليه؛ إلا بعد مرور عشر سنين، اي في المؤتمر العربي العام؛ المنعقد في القاهرة (22 مارس 1955م).
* كانت ولادة الجامعة إذن؛ متعسرة للغاية؛ فهي خرجت من رحم عهد الاستعمار البغيض؛ وجاءت لظروف سياسية وسيادية؛ صاحبت واعقبت الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945م).
* كان هدف الجامعة المعلن آنذاك؛ يتلخص في: (إقامة رابطة سياسية بين البلاد العربية، للمحافظة على استقلالها، ودعم القومية العربية).
* كان الاستقلال من نير الاستعمار آنذاك؛ هو الهاجس الأول لهذا التجمع الذي عصفت به رياح التغيير التي هبت من كل الجهات؛ وكان مجرد دخول قطر عربي جديد في كنفه؛ هو شهادة لبراءة من الذم بالتعبية والعبودية؛ ودليل على الحرية والاستقلال، وما عدا ذلك غير مهم - كان هذا في رأيي المتواضع وما زال - وقد شهدنا كيف تقزَّم دور هذا التكتل؛ أمام العدوان الثلاثي على مصر (1956م)، وتضاءل أمام العدوان الإسرائيلي على مياه نهر الأردن (1964م)، وانهزم مع هزيمة حرب (تشرين 1967م)، وكاد يتلاشى بعد ذلك ابتداءً من حرب (1973م)؛ حتى انتكس يوم العدوان العراقي على الكويت عام (1990م)، وما زال في انتكاس؛ حتى يوم الناس.
* في بدايات إرهاصات تأسيس الجامعة العربية؛ ساد أوساط العرب كافة؛ فرح كبير، فدبجت القصائد، ورصعت المقالات، وراح كثير من الكتاب؛ يرفع (عصا الكلمة) في وجه (فرنسا)؛ التي كانت تحتل الشمال العربي الافريقي. ولكن فرنسا التي خبرت العرب عن قرب؛ ردت بجملة قصيرة؛ رددها زعيمها الشهير (ديجول). قال: (نهضة العرب مشكلة)..! هذه الجملة الوجيزة في مبناها؛ الكبيرة في معناها؛ استفزت كُتَّاب: (جامعة العرب الفكرية) آنذاك؛ التي هي مجلة (الرسالة)؛ كما سميتها في بحثي (السعوديون في الرسالة)، فكتب واحد منهم هو (ابن عبدالملك) في افتتاحية العدد (626)؛ في سنتها (الثالثة عشرة 1945م)، كتب يقول وهو يسخر من (ديجول) أو يتوعد فرنسا: (إن العرب بعد اليوم؛ لن يُخدعوا، وإن أبناء الفاتحين؛ لغير الله لن يخضعوا، وإن جامعة الدول العربية؛ هي الظاهرة الأولى لفورة الدم العربي، وثورة التاريخ، فليتدبر ذلك القائمون على إقرار السلم، والموقعون على ميثاق السلامة)..!
* نهضة العرب مشكلة..! هل أخطأ ديجول..؟! وهل أصاب (ابن عبدالملك)..؟!
* الجواب قطعا؛ هو في حنايا خمسة عقود انصرمت؛ اسألوها إن أردتم ذلك..!
* واسألوا كذلك؛ قرارات وبيانات القمم العربية التي مضت؛ حتى أعتاب قمة تونس التي لم تتقدم.
* سوف أقول لكم بكل وضوح؛ أني فرح بالنتيجة التي أسفر عنها اجتماع المجلس الوزاري في تونس مؤخراً..! لماذا..؟ لأني أرى أن لغة واقعية بدأت تدب في أوصال أعضاء الجامعة.. لغة فهم لا لغة وهم.. لغة فيها وضوح وصراحة وشفافية، ولو كان الأمر غير ذلك؛ لنجح الاجتماع بلغة القوم القديمة، ولانعقدت القمة بمن حضر أو لم يحضر، ولرأينا على الشاشات الفضية؛ مثلما كنا نرى في مرات سابقة (حب خشوم وبوس كثير)...!، ولقرأنا بيانات ختامية؛ فيها تحايا وإشادات واتفاق تام، وتوافق عام، ومواقف متطابقة، ووجهات نظر متكاملة، ثم قمة ناجحة دون أن ينجح أحد.
* أقول: بأني فرح لهذه النهاية؛ لأني كعربي مشرقي؛ لا أريد (قِمَّة) عربية؛ تتحول في النهاية؛ إلى (قُمَّة) عربية..! نريد قمة عربية؛ تقوم على نظام جديد للجامعة؛ يعالج مسألتين أساسيتين، الأولى: مسألة (التساوي) في الأصوات بين كبير وصغير, فهذه معادلة لكنها في حقيقتها غير عادلة، والثانية: مسألة (الإجماع). وهذا الإجماع المطلوب منذ عقود؛ لن يتحقق بيننا، فهو عقبة كأداء إذن؛ لابد ان تذلل بأمر حضاري ديمقراطي هو (الأغلبية).
* ما حز في نفسي؛ وأنا محب ل(تونس) وأهلها، أن يتهم هذا البلد الجميل؛ تحت ظروف فشل الاجتماع الوزاري، إن (تونس) ينبغي أن تشكر اليوم؛ لأنها قالت (لا)؛ عندما تطلب الأمر ذلك. لا.. لغير ما يتطلع إليه المواطن العربي؛ من فهم واقعي لما يجري حوله في هذا العالم، ومن ثم التعاطي مع كل متغير دولي؛ بما يلزم من سياسات واضحة وضوح الشمس.
* كانت (تونس) وسوف تظل؛ هي (تونس الخضراء)؛ التي سارت وراء الزعيم (بورقيبة) ذات يوم، ونبذت وراءها سني التسلط والتخلف في ظل الاستعمار، ثم دخلت معترك الحياة من باب العلوم المعاصرة، حتى رأينا أبناءها وهم يكادون يكتفون في بلدهم؛ مما يأكلون ويشربون ويلبسون ويركبون.. رأيت هذا وعرفته بنفسي؛ ولم يقل لي أحد ذلك، وهي البلد العربي الوحيد؛ الذي ظل طيلة نصف قرن تقريباً، بعيداً عن القلاقل والمشاحنات مع قريب أو بعيد أو جار، حتى جاءها العرب المشارقة, فاستهدفتها الطائرات الإسرائيلية، التي تطارد الفصائل الفلسطينية قبل عدة سنوات، واقتطع العقيد الجار من جنوبيها (قفصة)، ولحقت بها بعد ذلك لعنة الجامعة.
* من (تونس الخضراء)؛ جهر (بورقيبة) ذات يوم؛ ب(حكميات) سياسية متوازنة؛ في شأن القضية الفلسطينية، لكن أخوة الدم والمصير والتاريخ؛ صموا آذانهم، وصكوا وجوههم، وأصروا واستكبروا استكبارا.
* ومن تونس الخضراء؛ تغنى بالحرية؛ شاعرها النهضوي الشاب (ابوالقاسم الشابي)، فنادى بالانفتاح على العصر، وعدم الركون إلى الماضي.
قال يخاطب الشعب العربي:
أنت دنيا.. يظلها أفق الماضي
وليل الكآبة الأبدي
مات فيها الزمان والكون إلا
أمسها الغابر القديم القصي
أنت قلب.. لا شوق فيه ولا عزم
وهذا داء الحياة الدوي
أنت لا شيء في الوجود فغادره
إلى الموت، فهو عنك غنى
والشقي.. الشقي في الأرض شعب
يومه ميت.. وماضيه حي
* وهو الذي حمل لواء النهضة في منتصف القرن الماضي، فعمد إلى زلزلة الشعب العربي من داخله؛ حيث إرادة الإنسان في الحرية والترقي والسمو. قال:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلابد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلي
ولابد للقيد أن ينكسر
ومن لم يعانقه شوق الحياة
تبخر في جوها واندثر
فويل لمن لم تشُقه الحياة
من صفعة العدم المنتصر
كذلك قالت لي الكائنات
وحدثني روحها المستتر
* (برافو) تونس.. فقد أرادتها (قِمَّة) ذات قيمة، لا (قٌمَّة) يفرسها سَبُع؛ ويأكلها ضبع.
* إن خير (قِمَّة)؛ هي (قِمَّة) لا تدفعنا إلى الدخول في قمقم جديد.
027361552fax:
|