زارني قبل سنة!
وكان يقفز على الدرج بتوثب ونشاط.
لم أصدق أنه ابن ثمانين سنة, أو يزيد! لقد كنا نعرف أن أبناء الثمانين يشغلون من حولهم بالأنين! قالوا:
أنينك طول الليل يشغلنا!!
فما الذي تشتكي؟ قلت: الثمانينا
أما هذا الرجل! فقد كان شاباً بكل الحيوية وهو في هذا العمر.
فقد تزوج عام 1368 هـ! وهو ابن ثلاثين سنة تقريباً! يقول لي: لا أتذكر أني غضبت عليها مرة واحدة، أو تكدرت نفسها مني، أو دَعَتْ عَلَيَّ أو على أحد من أولادها، وإذا شعرتُ بالصداع؛ فمن المستحيل أن تنام حتى أنام.
هذا الرجل وصل معها في الطائرة أمس قادماً من العمرة، مر بالمدينة المنورة، ثم استقر بمكة فترة.
يقول في شجون وتأثر: لا يمكن أن أذهب حتى لشراء الحاجيات، أو الخبز إلا وهي معي، وأنا أمسك بطرف يدها، كما لو كنا عروسين تزوجا البارحة.
على إثر عملية جراحية؛ توقفَتْ عن الإنجاب!
فقال لها: أنت أغلى عندي من الأولاد، وأهم ما أصبو إليه حياتك!!
يقول لي: ما دامت تطأ الأرض؛ فلا تفكير في الزواج، وحتى لو ذهبت؛ فلا زواج. أصغر أولاده عمره (تسع وعشرون سنة). كنت أقرأ أن الحب عند الكبار؛ كالحريق في المباني القديمة، سرعان ما يأتي على كل شيء.
لكن من يرى هذه التجربة؛ يعلم أن الأمر غير لازم.
وهذا النموذج ليس فيه أدنى مبالغة! إنه نموذج حيٌّ واقعي، ولكن -من خلال التجارب, ومراعاة أحوال الناس- يعتبر نموذجاً مثالياً. لكن لا يلزم أن نعلِّق أنفسنا بمثل هذا، فيعود الواحد منا إلى زوجته ليطالبها بشيء، بينما هو ربما لم يقم بأي شيء.
إن الزوجية حب ومودة:{خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (21) سورة الروم، ولهذا، يحنُّ كلٌّ من الجنسين للآخر، ويصبو إليه، ويشتاقه!
وكأنه يبحث عن نصفه المفقود!
لما ماتت امرأة أبي ربيعة الفقيه، دفنها, ونفض يديه، ثم رجع إلى داره، فحوقل, واسترجع، وبكت عيناه!
ثم قال يخاطب نفسه: الآن؛ ماتت الدار - أيضاً -يا أبا خالد!!
إن البناء يحيا بروح المرأة التي تتحرك بداخله.
كان وجودها حجاباً بيني وبين الهموم، كانت تسعدني في صباحي ومسائي، أما اليوم فقد ذهبت وذهب كل هذا معها.
قد يكون الحب بين الزوجين من طرف واحد.
كانت لابن عمر -رضي الله عنهما- جارية، وكان يحبها حباً شديداً، حتى انها سقطت مرة عن الفرس التي كانت تركبها، فجاء إليها راكضاً، وجعل يمسح التراب عن وجهها وعن رأسها بحنان، ويفدّيها (يقول لها: فدتك نفسي, فدتك نفسي). وهي تقول له: قالون قالون. (كلمة فارسية معناها: أنت رجل ممتاز).
ثم أتيح لها فرصة فهربت منه!! فالتفت ابن عمر -رضي الله عنهما-؛ فلم يجد من كان يحبها؛ فكان يقول:
قد كنت أحسبني قالون فانصرفت
فاليوم أعلم أني غير قالون
ذكر ابن حزم - رحمه الله- في كتابه (طوق الحمامة): أن محمد بن عامر, كان يرى الجارية فيحبها, ولا يصبر عنها، ويأتي عليه الهم والغم إلى أن يشتريها, ويتملكها! وبعد أن تصبح ملكاً له، تتحول المحبة نفوراً، ويصبح الأنس شروداً! فيتخلص منها!! حتى انه أتلف بذلك مالاً عظيماً.
وكان أديباً, نبيلاً، حسن الوجه والصورة!
يضرب به المثل في حسنه, وجماله، وتقف الألفاظ عند وصفه.
يقول ابن حزم (والعهدة عليه): (ولقد مات من محبته عدد من الجواري، بعد أن تسلل الملل إلى علاقته بهن، وأنا أعرف جارية منهن، كانت تسمى: عفراء، لا تتستر عن محبته حيثما جلست، وكانت لا تجف دموعها أبداً).
يقول الجاحظ: العاشق إذا ظفر بالمعشوق مرة واحدة نقص تسعة أعشار عشقه.
التقى أحدهم بالزوج في الساعة الثانية فجراً، وسأله: لماذا أتيت في هذه الساعة؟!!
لماذا أراك خارج البيت؟! هل أهلك في سفر, أونزهة؟
فأجاب: لقد أخرجت عملة ورقية, وقلت لنفسي: إن وقعت على الكتابة؛ فسوف أذهب لسهرة مع الأصدقاء، وإن وقعت على الصورة فسوف أذهب للتمشية، أما إذا وقفت العملة على رأسها؛ فسوف أبيت مع زوجتي !!
إن الحب الزوجي بحاجة إلى مجهود غير عادي من الطرفين، من أجل أن يظل واقفاً على قدميه.
إن مشكلة الحب الزوجي ليست في الخلافات العادية الحياتية، التي يتم تجاوزها، بل ربما تكون سبباً في تجديد العلاقة، أو هي (بهارات) تضاف إلى هذه الطبخة الجميلة.
وأحسن أيام الهوى يومك الذي
تهدد بالتحريش فيه وبالعتب
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضى
فأين حلاوات الرسائل والكتب
إن المشكلة تكمن في ثلاث نقاط: الأولى: عدم قدرة الإنسان على فهم الطرف الآخر؛ بل ربما عدم قدرته على فهم نفسه هو.
الثانية: عدم القدرة على التكيف مع هذه الشراكة الجديدة، أو التكيف مع الأوضاع المتغيرة، وكأننا نريد باستمرار أن يكون ما كان على ما هو عليه.
الثالثة وهي الأهم: عدم الإخلاص لهذه العلاقة، وعدم الاستماتة من الطرفين في ديمومتها, وبقائها وإزالة وطرد كل ما يعكرها.
لهذا أنت بحاجة إلى فهم قوانين اللعبة كما يقال, وكما سمتها صاحبة كتاب (إذا كان الحب لعبة فهذه قوانينها).
الوسائل العشر للحب الدائم:
إذا كان الحب الزوجي عرضة للمرض أو للموت فعليك أن تحاول تجديده, والمحافظة عليه.
أولاً: تعود على استخدام العبارات الإيجابية، كالدعوات الصالحة، أو كلمات الثناء.
قل لزوجتك: لو عادت الأيام؛ ما اخترت زوجة غيرك!
وقولي أنت لزوجك مثل هذا.
إن الكلام العاطفي يثير المرأة، وهو السلاح الذي استطاع به اللصوص اقتحام الحصون والقلاع الشريفة، وسرقة محتوياتها الثمينة.
إن الكلمة الطيبة تنعش قلب المرأة؛ فقلها أنت, قبل أن تسمعها من غيرك.
ثانياً: التصرفات الصغيرة المعبرة.
مثل: إن وجدتها نائمة؛ فضع عليها الغطاء. اتصل بها من العمل لتسلم عليها فقط, وأشعرها بذلك.
أو أن تجد المرأة الرجل نائماً؛ فتقبله على رأسه, حتى لو ظنت أنه لا يشعر فإن له حاسة تعمل، حتى خلال النوم!
لا تظني أنه لا يدري! إن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال:«حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِيِّ امْرَأَتِكَ» انظر صحيح البخاري (5354)، وصحيح مسلم (1628).
قد يعني هذا: الإنفاق على المرأة، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم- لم يعبر بالإنفاق، وإنما عبر باللقمة يضعها أحدنا في فيِّ امرأته.
وهكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يصنع مع أهله.
إن ذلك جزء من الذوق، إذا تعود المرء عليه؛ فإنه لا يحتاج إلى كبير جهد لممارسته.
ومن لم يتعود ذلك، ربما إذا سمع هذا الكلام يشعر بالخجل, وبالإحراج, ويفضل بقاء الأمور كما هي عليه، بدلاً من هذه المحاولة، التي ربما يعتبرها مغامرة.
أنت بحاجة إلى أن تدخل عادات جديدة في حياتك، و سلوكك، وإلا سوف تظل تواجه المشكلات.
ثالثاً: تخصيص وقت للحوار بين الزوجين.
الحوار عن الماضي، وذكرياته الجميلة؛ فإن الحديث عنها؛ يجددها كما لو كانت وقعت بالأمس.
الحوار عن المستقبل، وعن وعوده، و خططه، وحظوظه الجيدة.
الحوار عن الحاضر, وإيجابياته, وسلبياته, وكيف نستطيع التغلب على مشكلاته.
رابعاً: التقارب الجسدي.
ليس فقط من خلال الوصال والمعاشرة، بل الاعتياد على التقارب في المجالس, وفي المسير. بل إن من الناس من يرون أن النوم مع الزوجة خطأ.
وفي السوق، لا يزال هناك من يستحي أن يرى الناس امرأته تمشي بجانبه، أو حتى تمشي وراءه.
خامساً: تأمين المساعدة العاطفية عند الحاجة إليها. فقد تكون المرأة حاملاً، أو في فترة الحيض؛ و تحتاج إلى الوقوف معها معنوياً؛ وذلك بتقدير حالتها النفسية، فقد قال أهل الطب: إن معظم النساء في حالة الحمل, أو الحيض, أو النفاس يعانين من توتر نفسي, تضطرب معه بعض تصرفاتهن.
ومن هنا تحتاج المرأة إلى مؤازرة عاطفية تشعرها بحاجة الزوج لها, وعدم استغنائه عنها خاصة في مثل هذه الحالة.
وقد يكون الزوج أيضاً مريضاً، أو مجهداً فينبغي للزوجة أن تراعي ذلك، وأي علاقة بشرية - إذا أراد طرفاها أن تدوم - لابد فيها من أن تشعر الآخر بقربك منه, وبوقوفك معه.
سادساً: التعبير المادي للحب.
من خلال الهدية سواء كان ذلك بمناسبة, أو بغير مناسبة، والمفاجأة لها وقع جميل.
اختر هدية معبرة، وليس المهم في الهدية قيمتها المادية عند المرأة، بل بمناسبتها, وملاءمتها, لذوقها وما تحبه، وتعبيرك عن شعورك بها، واستذكارك لها.
سابعاً: إشاعة روح التسامح, والتغافل عن السلبيات.
كرر الصفح ونسيان الأخطاء خاصة في الأمور الحياتية البسيطة, التي ينبغي لكريم النفس ألا يتعاهدها بالسؤال.
وفي حديث أم زرع:« قَالَتِ الْخَامِسَة: زَوْجِي إِنْ دَخَلَ فَهِدَ، وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ، وَلاَ يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ» انظر صحيح البخاري (5189)، وصحيح مسلم (2448).
يقول ابن حجر في الفتح: يحتمل المدح بمعنى: أنه شديد الكرم, كثير التغاضي, لا يتفقد ما ذهب من ماله, وإذا جاء بشيء لبيته لا يسأل عنه بعد ذلك, أو لا يلتفت إلى ما يرى في البيت من المعايب, بل يسامح ويغضي.
ولا تنتظر أن يرد عليك من تصاحبه الحسنة بمثلها، ولا بد من العدل والإنصاف.
ومن الخطأ، أن نضع إبهامنا على طرف الكفة عند حسابنا أخطاء الآخرين؛ وأن نطيل ونفصل عند حساب صوابنا!!
وفي الأثر:(يُبْصِرُ أَحَدُكُمْ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ, وَيَنْسَى الْجِذْعَ فِي عَيْنِهِ) انظر السلسلة الصحيحة (33)، وتبييض الصحيفة لمحمد عمرو عبد اللطيف (1/145) (50).
قال ابْنُ مُفْلِحٍ:
عَجِبْت لِمَنْ يَبْكِي عَلَى مَوْتِ غَيْرِهِ
دُمُوعًا وَلَا يَبْكِي عَلَى مَوْتِهِ دَمَا
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا أَنْ يَرَى عَيْبَ غَيْرِهِ
عَظِيمًا وَفِي عَيْنَيْهِ عَنْ عَيْبِهِ عَمَى
ثامناً: التفاهم حول القضايا المشتركة: كالأولاد، المنزل، العمل، السفر، المصروف، وبعض المشكلات التي قد تهدد الحياة الزوجية.
تاسعاً: التجديد وإذابة الجليد، والعين الساهرة.
بإمكان الإنسان - رجلاً, أو امرأة - أن يقرأ كتاباً, أو يسمع شريطاً؛ حتى يستطيع أن يجدد الحياة الزوجية! وأن يضيف عليها من المعاني، والتنويع في: الملبس، والمأكل، والمشرب، والأثاث، والمنزل، وطرق المعاملة، والمعاشرة. ما يجعل الحياة تستمر، وتجدّ، ولا يتسرب إليها الملل, أو السأم.
عاشراً: حماية العلاقة من المؤثرات السلبية مثل: المقارنة مع الأخريات.
فإن الكثير من الرجال يقارنون زوجاتهم مع زوجة فلان، أو حتى مع فتاة رآها في مجلة، أو في الشاشة، أو غيرها.
والمرأة قد تقارن نفسها مع صديقاتها!!
فهذه زوجها غني، وتلك زوجها وسيم، وهذه زوجها كثير السفر معها. وهكذا.
فتقارن نفسها بهؤلاء، وبالتالي تشعر بالغبن, أو النقص.
إن هذه المقارنات تدمر الحياة الزوجية، وتزهد كلاً منهما في الآخر.
والمفترض أن تكون النظرة المقارنة مع من هو أقل منك!
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-:(انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ) انظر صحيح البخاري (6490)، وصحيح مسلم (2963).
علينا أن نتعود أن نعيش واقعنا، وأن نقنع بما كتب الله - سبحانه وتعالى- لنا، وألا نمد أبصارنا وأعيننا إلى ما عند الآخرين، فالشيء القليل الذي عندك إذا أحسنت استخدامه سيكون كثيراً.
وقد يكون كثير ممن يتحدثون عن السعادة، ويثنون على أزواجهم، غير صادقين في ذلك، ولكنهم يتشبعون بمثل هذه الأمور، أو يقولونها من باب المجاملة عند الآخرين. وعادة ما تبدو الزهور التي في بساتين غيرنا أجمل ! بسبب أن أيدينا لم تقترب منها.
|