كم هو محظوظ الإنسان في هذا الزمان! زمان تعددت صفاته وألوانه طبقاً لطيف المتلقي؛ إذا كان المتلقي عنيداً أو لديه بعض تمرد أو جمود (أو شيء من إباء) فيصفون له الزمان (جهاراً نهاراً) بزمان (المارد المتسلط) و(القطب الأوحد)، و(القوة العظمى) و(مَن ليس معنا فهو ضدنا)، و(استخلاص العبر). ومجلس الأمن أمريكي النكهة والرائحة، والتُّهم جاهزة: (الإرهاب) و(امتلاك أسلحة الدمار الشامل) (وانتهاك حقوق الإنسان)، وغيرها كثير. وكلها تترقب لمسة زر فتقوم الدنيا بأمر المارد ولا تقعد إلا بأمره. أما إذا كان المتلقي حلواً ومَرِناً، ومستوعباً لما يجري من حوله (وفوق رأسه)، ولديه بعض تعقُّل وواقعية، (وإياك أن تسمي ذلك ذلاً وخنوعاً)، فهَمْساً يُجمِّلون له الزمان ويصفونه بزمان (الرقي)، و(العولمة)، و(الإصلاح)، و(الديمقراطية)، و(السلام).. إلى آخر هذه المسميات البرَّاقة.
وتزدهي ملامح ذلك الحظ بأبهى حللها لنا نحن أبناء العروبة والإسلام. ولا شك -عزيزي القارئ- أنه لا حاجة للدهشة، أَمَا أَوْلانَا العم سام جل اهتمامه ورعايته! وذروة عطفه وحنانه! فأقبل إلينا باسماً شفتيه، فارداً ذراعيه، يلملم شتاتنا، ويُطيِّب جراحنا، ويُداوي آهاتنا، ويُجمِّل همساتنا، ويُنعش اقتصادنا، ويُثبت أقدامنا (أو كراسينا) داخل قفص ماسيِّ القضبان، أمريكي الهواء والماء، غربي الحضارة والتاريخ، أسماه الشرق الأوسط الكبير. نعم، شرق أوسط كبير وبقيادة حبيبة القلب، وآسرة العقل، ووحيدة الدلال: (إسرائيل). ولا تستغرب مطلقاً، فهي اليوم (مبدئياً) العاصمة، وفي الغد القريب يتم الاحتفال بها وقد تأصلت جذور الغرقد ونمت أغصانها وترعرعت أوراقها، حينها يتحقق ذلك الحلم الأزلي لشعب الله المختار: (إسرائيل الكبرى)، سيدة الشرق الأوسط الكبير، وما خفي كان أعظم.
هذا الزمان ليس فيه للشر مكان، لا أعراف ولا قومية، لا أحزاب ولا قبلية، لا شعارات ولا حتى ديانات. وللتذكير فقط: هذا الزمان ليس فيه (جَزَرة)، فزمان التلويح بالعصا والجزرة ولَّى وفات، المارد أكل الجزرة وأبقى (في يده) العصا للعُصاة. ولكن لا داعي للقلق، فالصورة ليست معتمة كثيراً؛ لأن فيها بصيص أمل، أي أن هنالك مجالاً للخلاص، فتثمر تلك العصا بعض جزرات توزَّع على هيئة مكافآت حسب المواصفات. ولا شك أن المعايير المحدِّدة لتلك المواصفات يمتلكها فقط (الزعيم)، لا أقصد (زعيم ستار أكاديمي).. لا، بل المارد. وهي معايير بسيطة جداً، وفي متناول الجميع، لا تحتاج جهداً عضلياً ولا إرهاقاً ذهنياً، فقط تحتاج صدقاً في الولاء والارتماء، وهَوَساً في الاستسلام والطاعة.
هذا الزمان الويل فيه كل الويل لثنتين وواحد: أُذُن تعترض على (أو تتلكَّأ في قبول) القرارات، وعَين تحلم بامتلاك أو تطوير أي سلاح دون إذن العم سام أو من وراء ظهره، ولسان يتفلسف بمفردات لا يقبلها المارد عُرف بعضها الآن والبعض الآخر يأتي تباعاً.
زمان يزغرد فيه المرء على لحن (3*1)؛ أي ثلاث عبارات لا قيمة لهن إلا إذا اجتمعن واتَّحَدْن في عبارة واحدة تقول: (لا أسمع.. لا أرى.. لا أتكلم).
ومَن يدري فقد تكون هي العبارة الأسلم.. والله من وراء القصد أدرى وأعلم!!
|