لماذا ينتظر الإعلام حتى تأتيه توصيات مجلس الشورى, أو توجيهات تنفيذية حتى يتحرك ويتفاعل مع قضايا وموضوعات أفرزتها لقاءات الحوار الوطني, أو دفعت بها طروحات الإصلاح التي تبنتها الدولة في السنوات والأشهر الماضية؟ لماذا ينتظر الإعلام حتى تأتيه أصوات من مجلس الشورى تناديه بفتح قنوات الإعلام لتستوعب التوجهات العامة للمجتمع.. وتعطي شفافية عالية في تناول قضايا وموضوعات المجتمع؟
قبل أشهر تناولت في دراسة علمية قدمتها إلى اللقاء الثاني للحوار الفكري بمكة المكرمة عددا من الأفكار والتوجيهات التي ينبغي للإعلام أن يستوعبها ليكون صاحب مبادرة وتأثير وقوة، بدل أن يظل على هامش الأحداث وخارج الاهتمام الوطني. وقد جاء الأسبوع الماضي ليكون الصوت عاليا من مجلس الشورى في أن يكون لإعلامنا دور جوهري في موضوعات الساعة وقضايا المجتمع، وأن يفتح مجالات جديدة من القنوات التي تعطي حرية أكبر وهامشا أوسع في التناول والموضوعات والطرح والشخصيات.
وهنا أعرض لبعض الاستراتيجيات التي يمكن للإعلام تبنيها لتكون قاعدة انطلاق وأساس تعامل مع الأحداث الداخلية والخارجية بما يحقق مصالح وطنية عليا, ويلبي احتياجات مواطنية ملحة.. وتحديدا نعرض إلى ملامح اندماج مفهوم الحوار وتطبيقاته في استراتيجية إعلامية مفتوحة تسعى إلى مزيد من الحوار والمشاركة الشعبية التي شرعت فيها المؤسسة السياسية في البلاد.
1 - يمكن القول إجمالا وفي العموميات إن الحوار لا ينبغي أن يكون هدفا بذاته، بل يجب أن يكون وسيلة نمتطيها لتحقيق الأهداف الوطنية والاستراتيجية للمملكة، في ظل ظروف ومتغيرات المنطقة والعالم.. وعندما يكون الحوار هدفا بذاته، فنصبح نلوك ونهضم ما نقوله ونسمعه دون أن تكون هناك إفرازات مؤسسية لمحتوى واتجاهات الحوار الوطني.. ويصبح الحوار هو الهدف والنتيجة التي نبتغيها منه، والحوار يؤدي إلى مزيد من الحوار، ولكن لا توجد تطبيقات عملية لمخرجات هذا الأسلوب من الاتصال بين الشرائح والجماعات. والحوار في وسائل الإعلام - بشكل خاص - هو وسيلة وهدف في نفس الوقت، فهو وسيلة لتحقيق أهداف وطنية تفرزها عمليات الحوار الوطني، ولكنه هدف بذاته، لأن وسائل الإعلام بشكل خاص مطلوب منها وفق رسالتها الاجتماعية أن تكون لسان حال ومتحدثا باسم الناس والجماعات والشرائح الاجتماعية.. وهذه الفئات والشرائح تجد أن مجرد وصولها إلى وسائل الإعلام هدف كبير يتحقق لها على المستوى الوطني.
2 - ينبغي أن يكون الحوار أداة من أدوات السلطة السياسية لمعرفة الاتجاهات وسبر أغوار المجتمع، وتشخيص مشاكله، وبناء حركة إصلاحية واسعة تخدم المصلحة الوطنية العليا للبلاد.. ومن هنا تأتي أهمية تبني وسائل الإعلام مبدأ الحوار على خلفية أهمية هذا الحوار للمؤسسات الاجتماعية وما يمكن أن يهيئ من فرص لصاحب القرار في أن يوظف هذا الزخم الحواري في مشروع وطني إصلاحي كبير.
3 - ينبغي أن يقود هذا الحوار الذي يدور في مؤسسات وطنية وتصريحات رسمية وأحاديث مجلسية توجها محوريا نحو توسيع دائرة حرية الكلمة والإعلام في المؤسسات الإعلامية.. فليس مفيدا أن يكون هناك حوار داخل الغرف المظلمة وقاعات الاجتماعات ويحجب الحوار في وسائل الإعلام والأندية الثقافية ومؤسسات التعليم والجامعات.. فالمتوقع أن يكون هناك تناغم في حركة الرأي بين الحوار المؤسسي وبين الحوار الشعبي الذي تعكسه المؤسسات الإعلامية والثقافية والتعليمية في المملكة.
4 - لا ينبغي أن يقتصر هذا الحوار على موضوعات وطنية بحتة، بل يمكن أن يمتد إلى موضوعات خارجية، تتناول علاقات المملكة ومصالحها الاستراتيجية مع دول العالم.. وتصبح إفرازات البرامج الحوارية والمقابلات الصحافية قوى ضاغطة تساند القرار السياسي السعودي في تعاملاته وعلاقاته الدولية.
5 - ينبغي أن يكون الهدف الاستراتيجي للحوار للمؤسسات الوطنية عامة، ولمؤسسات الإعلام خاصة، هو بناء مؤسسي قادر على احتواء التعدد والأطياف في المجتمع، وكذلك تقوية المجتمع وتعزيز قدرته على التعامل مع مستجدات الظروف الدولية ومتغيرات التقنية الحديثة.
وختاما، ينبغي التأكيد على أن وسائل الإعلام أدوات لتداول الرأي والفكر بين مختلف شرائح المجتمع. وكلما اتسعت مساحة حرية طرح هذه الأفكار والآراء تقلصت الوسائل التي تستخدمها هذه الجماعات والشرائح في المجتمع عبر وسائل خارجية أو عبر وسائل غير شرعية أحيانا. ومن هنا نؤكد الدعوة إلى توسيع هامش حرية وسائل الإعلام السعودي ليكون أكثر جرأة وأقرب إلى هموم الناس وقضاياهم الحقيقية، ليصبح هذا الإعلام منبرا لكل سعودي ولكل من يحمل رأيا ولديه مشروع وطني يتوافق مع ثوابت العقيدة والوطن والمجتمع. والقاعدة الأساسية في هذا الخصوص أنه كلما انغلقت وسائل الإعلام وهمشت جماعات وشرائح وقطاعات في المجتمع ساهمت وسائل الإعلام سلبا في أن تبحث هذه الجماعات والشرائح عن وسائل أخرى للتعبير عن ذاتها. والعكس صحيح، حيث انه كلما انفتحت وسائل الإعلام على كل ألوان الطيف الاجتماعي والفكري والسياسي، واستقطبت كل هذه الفئات وأعطتها المشروعية الإعلامية المطلوبة، تكون قد نجحت في رسالتها الاجتماعية في أن توجد مظلة عامة يستظل بها الجميع مهما اختلفوا في الآراء والمواقف والاتجاهات. وربما أن إطلاق مبادرة جديدة خاصة بالإعلام يشترك فيها أساتذة ومختصون ومثقفون في إطار مؤسسي متخصص يكون داعما لتحريك الإعلام والارتقاء به إلى آفاق جديدة من العمل الوطني، الذي لا ينتظر التوجيه، بل يمتلك زمام المبادرة ويؤسس لمفهوم مهني - عصري من الممارسة الإعلامية.
يتبع....
* رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
أستاذ الإعلام المشارك بجامعة الملك سعود
|