Friday 2nd April,200411509العددالجمعة 12 ,صفر 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

« الجزيرة » تفتح ملف.. سلوكيات يرفضها الإسلام «15» « الجزيرة » تفتح ملف.. سلوكيات يرفضها الإسلام «15»
السخرية من الناس.. سلاح العجزة لتنفيس أحقاد دفينة

* الجزيرة - خاص:
لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ}، ولم يكن ذلك إلا لشدة خطورة هذا السلوك المرفوض، وتأثيره المدمر في إشاعة العداوة والبغضاء بين فئات وأفراد المجتمع المسلم.. لكن لماذا يسخر بعضنا من بعض؟ وما هي آثار السخرية على النسيج الاجتماعي؟
*****
جاء الإسلام ليخلص البشرية من أدران الجاهلية وأمراضها، ويقوم السلوك الإنساني ضد أي اعوجاج أو انحراف عن الفطرة السوية، ويقدم العلاج الشافي لأمراض الإنسان في كل العصور القديم منها والحديث، مما حملته العصور الحديثة بتقنياتها ومستجداتها، وهو علاج تقبله كل نفس سوية، ولا ترفضه إلا نفوس معاندة مكابرة، جاهلة، أضلها هوى، أو متعة زائلة.
وقد استوعبت الشريعة الغراء كل ما قد يقترفه الإنسان من ذنوب، أو محرمات في كل عصر، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً، أو حتى ما يعتمل في الصدور من مشاعر وانفعالات، وأبانت أسباب تحريمها جُملة وتفصيلاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، إلا ان الكثيرين مازالوا يسقطون في دائرة المحرمات هذه، إما جهلاً، أو استكباراً، أو استصغاراً لها، أو بحثاً عن منفعة دنيوية رخيصة واستجابة لشهوة لحظية، بل إن بعض هؤلاء يحاولون الالتفاف على حكم الإسلام الرافض لهذه السلوكيات، بدعاوى وأقاويل هشة لا تصمد أمام وضوح وإعجاز الإسلام في رفضه لهذه الموبقات التي تضر ليس مرتكبها فحسب، بل تهدد المجتمع بأسره.
و«الجزيرة».. تفتح ملف هذه السلوكيات المرفوضة، تذكرةً وعبرةً ووقايةً للمجتمع من أخطار هذه السلوكيات، وتحذيراً لمن يرتكبها من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، من خلال رؤى وآراء يقدمها أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة والدعاة وأهل الرأي والفكر من المختصين كل في مجاله..
آملين ان تكون بداية للإقلاع عن مثل هذه السلوكيات التي حرمها الله، قبل ان تصل بصاحبها إلى الندم وسوء الخاتمة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
تشكل السخرية من الناس سلوكاً مشيناً لا يقبله الدين والعقل، وخطراً داهماً على المجتمع، وقد توعد الله تعالى الساخرين بأشد العذاب، فقال سبحانه:{وَيْلٌ
****
في البداية يقول فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن محمد آل رقيب رئيس محاكم المنطقة الشرقية المساعد: لقد اهتم الإسلام بالجوانب الخلقية لكونها ركيزة أساسية في بناء شخصية الإنسان المسلم، وسلوك المسلم هو خلقه الذي يجب أن يكون وهذا السلوك يأخذ أشكالاً عديدة أولها سلوك المسلم مع ربه ثم سلوك المسلم مع نفسه ثم سلوك المسلم مع غيره من زوجة وأولاد وأقارب وأصحاب وكل هذه الأنواع من السلوك عني بها الإسلام لتكوين خلق كريم ينهض بالمجتمع الإنساني والسير فيه إلى بر الأمان وسبيل الرشاد وأداء الأمانة التي حمل إياها هذا الإنسان.
وعلى الرغم مما ورد في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الشريفة من حث على الخلق الكريم الذي يبني الشخصية الإسلامية المستقيمة الفاضلة، ويسهم في بناء المجتمع الإسلامي إلا أن هناك نفوساً مريضة استحوذ الشيطان عليها وأعماها عن هذه النصوص التي تدعو لمكارم الأخلاق، وتحذر من سيئها فاتصفت بمرذول الأخلاق وبئيس الصفات، ومما ابتلي به البعض السخرية والاستهزاء رغم النهي الصريح في القرآن الكريم عن هذا التصرف المشين يقول الحق تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ورغم صراحة هذا التحذير وشدته إلا أن هناك من لا يكف شره وأذاه عن إخوانه المسلمين فتراه دائم الاستهزاء والسخرية، لا يسلم إخوانه المسلمون من شره ولا يصلهم بخيره، هو للأذى أقرب منه للمنفعة لا يذكر إخوانه وأخواته من المسلمين إلا بما يكرهون من الألقاب وتراه يكثر من السخرية واللمز، وهذا من الفسوق الذي أوضحه الله في الآية الكريمة، وهذا الداء حمانا الله وإياكم منه لا يقتصر على الرجال وحدهم، بل نراه ونسمع عنه حتى في أوساط النساء وأصبحت كثير من المجالس تفتقد إلى ذكر الله والصلاة على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأضحت مادتها الاستهزاء بملابس تلك المرأة والسخرية بشكلها والتندر من أسلوب حديثها وبدلا من أن يتصدى من في المجلس لذلك وينهون عنه تراهم يتناوبون وكأنهم في مساجلة وفي منافسة على أيهم يقذع في الوصف المشين لذلك الغائب أو الغائبة وأيهم يحوز رضا الجالسين أو الجالسات في التفكه في أعراض الآخرين وأحوالهم.
ويضيف الشيخ آل رقيب: وهذا المرض (السخرية والاستهزاء) كما أنه يتفاقم ويتراكم بالخلطة السيئة والرفقة غير الصالحة وبجلساء السوء؛ فإن هناك علاجاً وقائياً له ألا وهو المنزل، وذلك عندما نربي أبناءنا على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان منهجه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه الثناء على المتفوقين بإطلاق الألقاب الحسنة عليهم؛ فأبو عبيدة (أمين الأمة) والزبير (حواري الرسول) وخالد بن الوليد (سيف الله المسلول) وهكذا كانت سيرته صلى الله عليه وسلم في التشجيع وتعويد الأطفال الاستحسان والابتسام لا السخرية والاستهزاء، وكان صلى الله عليه وسلم يشنع على المستهزئين ويشدد عليهم، فيجب على الأب والأم عدم السخرية والاستهزاء بالآخرين خاصة أمام أطفالهم وانتقاصهم درءاً لأنفسهم من هذا البلاء ولئلا يعتاد الأطفال هذا السلوك الخاطئ منهما؛ لأن الطفل يكتسب العادات الحسنة وغير الحسنة من بيئته وأول عناصرها المنزل فليكن التأسيس لهذا الجانب قوياً ومرتبطاً بالنهج النبوي الشريف.
أسلحة العاجز
من جانبه يرى د. محمد بن عبد الله السحيم عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود بالرياض أن بعضاً ممن شرف بهذا الدين يلجأ إلى السخرية بالإسلام وأهله، وظنوا أن السخرية ستطمس حقاً، وترد مؤمناً، وتزعزع موقناً، وتفرق مجتمعاً.. ولم يعلموا أن سخريتهم بالمؤمنين تورثهم منافرة لمن خالفهم، وتزيدهم إيماناً وصلابة وتمسكاً بدينهم، متمثلين قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}.
ويقول د. السحيم: والسخرية هي ثالث أسلحة العاجز التي هي: الغيبة والنميمة والسخرية، ولا يلجأ إليها القوي ابتداء، ولكن يعمد إليها لمقابلة سخرية مماثلة، والسخرية بالدين وبشعائره الظاهرة أو الباطنة وبمظاهره الظاهرة على المؤمنين تورد الساخر موارد العطب؛ لأنها تخرجه من دائرة الإسلام وهو لا يشعر، قال تعالى:{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، فهذا الحكم بكفرهم لأنهم سخروا من بعض الصحابة بسبب صفة خلقية كالإكثار من الأكل وعدم الشجاعة- وقد كذبوا عليهم- وقد عدّ الله هذه السخرية استهزاء به وبآيته وبرسوله، فما بالك بمن يسخر من شعائر الله كالمحافظة على الصلاة والتزام الحجاب وتوفير اللحى وتقصير الثياب؟
ويضيف: هذا حكمهم في الدنيا فما مآلهم في الدار الآخرة؟ إنهم في مكان بئيس وعذاب أليم، قال جل ثناؤه: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} فسخرية هؤلاء بالمؤمنين تنقلب سخرية بهم يوم القيامة، فيسخر منهم المؤمنون، وذلك كما أخبر الله عن ذلك الموقف بقوله سبحانه:{فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، ويرفع الله في ذلك اليوم شأن المؤمنين، ويجعل ذلك الساخر المغتر بنفسه في مكان سحيق قال تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} بل إن من مقاصد هذا الدين أن يشفي صدور المؤمنين من الذين كانوا يسخرون منهم ويؤذونهم، قال ذلك الشيخ السعدي رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}.
ويقول السحيم مخاطباً المسلمين: انظروا إلى هذا النعيم النفسي الذي يمتن الله به على المؤمنين في الجنة في هذا المشهد المذكور في قوله تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ} {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} ولتكن هذه المشاهد الأخروية دافعاً للمزيد من رسوخ الإيمان واليقين، وليكن لسان حال المؤمنين في مثل هذه المواطن {انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ}، ولتكن آيات الوعيد زاجراً لمن تسول له نفسه السخرية بدين الله، وليعلموا أن الساخرين بالدين هم الخاسرون، بل هم أعظم الناس خسارة، حيث خسروا أنفسهم، قال تعالى:{إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وإذا خسر الإنسان نفسه فماذا يبقى له؟ لأن الخاسرين كثير، فمن الناس من يخسر ماله، ومنهم من يخسر منصبه، ومنهم من يخسر مكانته الاجتماعية، ومنهم من يسخر ولده، ومنهم من يسخر بلده، ومنهم من يخسر دينه، وهو أعظم خسارة، لأنه خسارة للنفس في الحياة الدنيا، وفي الآخرة.
داء عضال وسوء مآل
من جانبه قال الشيخ عبد الله بن محمد اللحيدان مدير عام فرع وزارة الشؤون الإسلامية بالمنطقة الشرقية: إن الخالق عندما نهى عن السخرية في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} فإنه يضرب أعظم الأمثلة في توجيه المسلم والمسلمة إلى ما يجب عليهما نحو الآخرين من جهة نبذ خلق ذميم، وهو السخرية فيما بينهم.
والسخرية تنبع من احتقار الآخرين، وطلب إذلالهم، وهي محرمة نهى الله عنها في هذه الآية الكريم، ونهى عنها الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم في أحاديث منها ما رواه الترمذي عن أم هانئ رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} قال: كانوا يحذفون- يحرقونهم- أهل الأرض ويسخرون منهم، وقال صلى الله عليه وسلم لمن عير رجلاً بأمه: إنك امرؤ فيك جاهلية، وقد أورد القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنهما أثراً يبين فيه سبب نزول الآية الآنفة الذكر، وأنها نزلت لما حقر رجل آخر في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيره بأمه فنزلت، وقال الضحاك نزلت بمن كانوا يستهزئون بفقراء الصحابة مثل عمار وخباب وبلال وصهيب وسلمان وغيرهم لما رأوا من رثاثة حالهم، وقال الطبري عند تفسيره هذه الآية: (إن الله عم بنهيه المؤمنين عن أن يسخر بعضهم من بعض جميع معاني السخرية فلا يحل لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره ولا لذنب ركبه ولا لغير ذلك).
ويضيف الشيخ اللحيدان: ومن البلاغة اللا متناهية أن الإسلام صور من يلمز أخاه أنه يلمز نفسه لأن المسلمين جسد واحد، فكأن من استهزأ بواحد منهم قد استهزأ بنفسه، وهل يرضى بذلك ذو لب رشيد، والآية الكريم قد ذكر الله فيها نوعين من أنواع السخرية، وهما اللمز والتنابز بالألقاب، والحق أن هذين النوعين هما أكثر ما يقع فيهما الناس في باب السخرية، قال القرطبي: ومن ثم يكون ذكر اللمز والتنابز بعد ذكر السخرية من قبيل ذكر الخاص بعد العام اهتماماً به، واللمز هو: استخدام أسلوب قولي للسخرية من الناس، وأكثر ما يقع تعريضاً لا صراحة، كأن يقول لشخص إنه صحيح، لا يقصد بها سوى أنه خفيف العقل ونحو ذلك، وأما التنابز بالألقاب فهو: أن يدعو الرجل أخاه بما يكره من اسم أو صفة.
ومن أنواع السخرية التهكم، وهو أن يذكر قولا صحيحاً مراده من ذلك أن يسخر من مستمعه، وأن مراده غير ذلك، وكذا من الأنواع المذمومة من السخرية الهمز، وهو السخرية من الناس بالإشارة دون اللسان وأكثر ما يقع من قبل تغيير تعابير الوجه كأن يشير للمسخور منه بطرف عينه أو رأسه أو بحاجبيه أو كأن يشير بيده إلى رأسه مع تحريكها إشارة إلى الجنون وخفة عقل الملموز، ومنه أيضاً الضحك على سبيل السخرية، ومن ذلك قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ}.
وهنا ملحظ من ملاحظ أسباب التحذير من السخرية في أن الساخر لا يدري لعل المسخور منه على خير حال منه عند الله مقاماً وقدراً، قال القرطبي: (وبالجملة فينبغي ألا يتجرأ أحد على الاستهزاء بمن يقتحمه بعينه إذا رآه رث الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبق في محادثته فلعله أخلص ضميراً وأنقى قلباً ممن هو على ضد صفته فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله والاستهزاء بمن عظمه الله)، ومن سخر من أخيه فلا يأمن عقوبة أن يصاب بمثل عاهته، قال عمرو بن شرحبيل: (لو رأيت رجلاً يرضع عنزاً فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الذي يصنع)، وعن ابن مسعود قال: (البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلباً).
وعلى هذا يتبين عظم صنيع من وقع في السخرية مما يلزم معه التوبة مما حصل من ذلك، والكف عنه، وعدم التلبس به، وفي المقابل فإنه من جميل الخلق أن من رأى مبتلى أن يدعو الله بالمعافاة من البلوى، وأن يدعو له أن يرفع الله عنه ما ابتلاه به، فيقول الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك، اللهم عافه ولا تبلاني، الحمد لله الذي فضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، وبهذا الخلق القويم، والاعتراف بنعمة الله على المؤمن، وخشيته لربه أن يبتليه وشفقته على أخيه، ودعاء الله له أن يرفع عنه بلواه، كل ذلك محفز أن يخلو المجتمع من بلاء السخرية، ليعيش المسلمون كما يحب ربنا ويرضى إخوة تسودهم المودة والاحترام والتقدير.
بلاء السخرية
ويشير الشيخ اللحيدان إلى أن المتمعن النظر يجد أن داء السخرية إنما ينمو ويتكاثر لوجود أمراض نفسية وقلبية قد أصيب بها الساخر مما جعلته ينظر للأمور بعين السخرية، إما لغرور يترفع به عمن هم دونه مظهراً وهو متوعد على ذلك بالويل كما قال: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ}، وإما لحسد يحسد به غيره ممن لا يستطيع أن يصل إلى ما وصلوا إليه، وهذا النوع نجده يصدر من أصحاب المعاصي تجاه أصحاب الطاعات، ولذا أخبر الله تعالى عن مآل من هذه حالهم كيف سيكون يوم القيامة في قوله:{أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}، وهم قد كانوا إنما سخروا من أمر الله وبعباده المصلحين كما قال تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئونَ}، وهذا من أعظم وأشد ما يقع الناس به من بلاء السخرية، السخرية بالعلماء الربانيين، وأهل الصلاح والمصلحين، كما قال تعالى عن حالهم: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ}، إلى قوله: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}. وفي هذه الآيات عزاء للمسخور منه، وان الله سيأخذ له حقه وما عليه إلا الصبر، فهو موعود على ذلك بالفوز.
وقد تكون السخرية ناتجة عن حقد دفين من الساخر للمسخور، وهذه تتطلب معالجة إيمانية لردعها وكف أذاها ليسلم قلب الساخر من الضغينة والحقد اللذين أعمياها فركب معهما مركب السخرية دون تروٍ حتى ظلم، ولقد وقع من هذا على الدعاة الشيء الكثير، وإن كانوا موعودين بالظفر إلا أن الحذر من الوقوع بشراك السخرية الحاقدة على الدين، وأهله أمر يجب التنبه به من جهة والصبر على أذاه من جهة المسخور منه قال تعالى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} فهذا تهديد ووعيد للساخر بشيء من شرع الله، والدعاة إليه، وهناك عزاء وتسلية للمسخور منهم، وهو في ذات الوقت تخويف للساخر بأن العاقبة للمتقين فليكن منهم ما دام في الأمر سعة، قال تعالى:{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}، فلربما المستهزئ يعيش طويلاً وعلى حال ظاهرها أنها أفضل من حال المستهزأ به من باب الإملاء فحسب، ثم يأخذه الله بعقاب لم يحدد لتتوقع أعظمه وأفظعه وأقساه وكل بحسب ما اقترفت يداه من سخرية وهمز ولمز وتنابز عافانا الله وإياكم من السوء.
ومن هنا وجب على المسلمين الحذر من الاتصاف بهذا الخلق الذميم، وتجنب مزالقه الخطيرة، ولا يقولن أحد إنه إنما كان يمزح، فلربما كان هلاكه في مزاحه، ولقد وصف الله من سخروا بكلام كانوا قد قالوه على الرسول- صلى الله عليه وسلم- وصحابته مدعين أنه من كلام المجالس فحسب، ولكن الله آخذهم عليه اشد المؤاخذة حين قال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.
خطورة سلوك السخرية
أما د. رقية بنت محمد المحارب الداعية المعروفة فتقول: هل يكفي أن نعلم أن الساخرين من الناس في الدنيا يسخر منهم الله عز وجل وأنبياؤه صلى الله عليهم وسلم، وأي عقاب أشد من هذا لو تأملناه وتفكرنا فيه؟
فقد تكرر النهي عن السخرية بكل أنواعها في كتاب الله، في مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(الحجرات:11) ورد في سبب نزولها أنها في وفد بني تميم، حيث كانوا يستهزئون بفقراء الصحابة مثل عمار وخباب وبلال وصهيب وسلمان وسالم وغيرهم، لما رأوا من رثاثة حالهم.. ويلفت سيد قطب رحمه الله تعالى النظر عند كلامه حول هذه الآية إلى القيم الحقيقية التي يوزن بها الناس بأنها ليست تلك التي تعارفوا عليها من الغنى والجاه وغيرهما، بل إن قيماً أخرى هي مدار التقييم الحقيقي مبثوثة معالمها في كتاب الله تعالى، فليست الإعاقة مثلاً عيباً، ولا مانعة من بلوغ الدرجات العلى في الدنيا والآخرة، لكنها عند نفر من الناس حظهم من العلم والخلق قليل مسوغ للاستهزاء والانتقاص، وليس القصر مثلاً علامة على الضعة في الدنيا والآخرة، وليس وليس..
وتضيف د. المحارب: إن ما يدل على خطورة هذا المرض وصف الله عز وجل المتصف به باسم الفاسق وبالظالم في آخر الآية، وهذا وحده كاف للتحذير من خطورة الاستهانة بالسخرية من الناس، وتبلغ هذه الصفة الذميمة غايتها عندما تتصل بالأخيار من الناس كالعلماء، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فبحجة الخطأ تطلق الألسنة تحقيراً لهم وتعييباً، ولم يدرك من يفعل هذا أنه إنما يقلل من شأن الأفاضل من الناس، وأنه كما قال الشاعر:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأني كامل
ومما يؤسف له أن نجد في بعض المجتمعات النسائية تهاوناً بهذا الأمر، مرده أحياناً الغيرة، وأخرى ضعف العلم، وثالثة موافقة الصاحبات، ورابعة المزاح وتمضية الوقت، ولو علمت كل امرأة خطورة الكلام، وأن رب كلمة قالت لصاحبتها دعيني، أو لو عقلت حديث: (..وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم)، لما تجرأت على التفوه بكلمة واحدة من انتقاص الآخرين، وأذكر أنني قرأت ذات يوم مقالة لإحدى الكاتبات- هداها الله- تستهزئ فيها من تحذير وتوعية بعض المعلمين جزاهم الله خيراً طلابهم باتجاه برنامج تلفزيوني يحث على الرذيلة ويهدم القيم.. وكان السلف رحمهم الله تعالى يتهيبون من بعض الكلام المباح خشية الوقوع في المعاصي، وتلك مرتبة جليلة، ومنزلة رفيعة تدل على قدر كبير من العناية بأعمال القلوب.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved