Friday 2nd April,200411509العددالجمعة 12 ,صفر 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

بصراحة بصراحة
غياب الفكر الفلسفي الإبداعي في الثقافة العربية المعاصرة (2 -3)
لبنى وجدي الطحلاوي ( * )

عندما نتحدث عن غياب الفكر الفلسفي الإبداعي في الثقافة العربية المعاصرة، فهذا لا يعني أن هذا الغياب هو القضية الأم في الوقت الحاضر.. بل لأن الخوض في أسباب هذا الغياب يجعلنا- ببساطة شديدة- ندرك حقيقة غياب الكثير من الأمور الهامة والحيوية للغاية.. مثل غياب الإبداع العلمي والتكنولوجي والفاعلية السياسية....... وغيرها من الأمور الغائبة في تاريخنا المعاصر.
والخوض في ذلك من منطلق فلسفي، يعود لسببين رئيسيين أولهما: إعطاء الكاتب مساحة أكبر من الحرية في طرح أكبر قدر من الحقائق الموضوعية متجنبا التقيد قدر المستطاع.
ثانيهما: أن أفضل من قدموا أجوبة عن أسباب الغياب من المعاصرين هم من المفكرين والفلاسفة، وإن كانوا لا يعرفون بأنهم فلاسفة... بالرغم من أنهم أصحاب أكبر تأليف فلسفي في العالم العربي المعاصر أمثال (زكي نجيب محمود) و(ناصيف نصار) و(محمد عابد الجابري)... وغيرهم.
فالمفكر الكبير زكي نجيب محمود تحدث بشكل واضح ومباشر عن أسباب هذا الغياب في كتابه (تحديد الفكر العربي) مرجعا ذلك لستة عوائق رئيسية.. يمكن طرحها بشكل مختصر:
العائق الأول: هو عدم قدرة المفكر العربي والمعاصر على التوفيق الإيجابي بين تراثه الفكري والإنتاج الفكري المعاصر ، سواء كان ذلك (علما أو تقنيات أو فلسفة).
والعائق الثاني: هو استمرار التفكير في المسائل المعاصرة بمنهج عتيق، فلم يعش الفكر العربي أي طفرة من التجديد على غرار ما عاشه الفكر الأوروبي منذ القرن السابع عشر الميلادي على يد (ديكارت) و(بيكون)...
والعائق الثالث: في نظره يكمن في الكيفية التي تعامل بها هذا الفكر مع تراثه الخاص به.. فلقد نظر المفكر العربي المعاصر إلى تراثه الفكري نظرة موحدة له، كأن التراث واحد، ولكل عناصره القيمة نفسها، دون أن يميز جيدا بين مظاهر القوة التي يمكن الاستناد إليها في حاضرنا، وما يجب أن نعتبره أنقاضا ليس لها تأثير إيجابي في حاضرنا.
والعائق الرابع: هو ما أطلق عليه زكي نجيب محمود (سلطان الماضي على الحاضر) وهي الحالة التي يصبح فيها للأموات سلطان على الأحياء، وهذا يعني كلما جدت مشكلة أو استعصى أمر على المعاصرين، فعليهم أن يستنجدوا بحلول سابقة من تراثهم لحل الأوضاع الراهنة، متجاوزين الزمن وغير مدركين بأن مشكلاتنا الحالية وإن بدت متماثلة ظاهريا مع مشكلات أسلافنا إلا أنها ليست المشكلات نفسها... وعلينا أن نفكر فيها من جديد.
والعائق الخامس: هو هيمنة الحياة السياسية على الحياة الفكرية، واستبداد أصحاب السلطة وانفرادهم بالرأي فكما يقول زكي نجيب محمود أكبر بلاء يمكن أن يبتلى به الفكر الحر في مجتمع ما، هو أن يجمع الحاكم بين السلطة والتفرد بالرأي، فعندما يصبح الحاكم هو المفكر الأوحد وتكون آراء الحاكم وحدها هي الصواب، فلن تقوم للفكر العقلي قائمة.. والفلسفة جزء من هذا الفكر.
والعائق السادس: هو سيطرة الفكر الخرافي وتأثيره في طريقة التفكير، وغلبة الاعتقاد بالكرامات على القوانين الطبيعية، والمشكلة الكبرى ليست في انتشار ذلك في أوساط العامة من الناس، بل في أوساط العلماء أيضا، فحياة مجتمعية يسود فيها هذا النوع من التفكير لا يمكن أن تنتج ثقافة عقلانية، ينتج عنها علم وتكنولوجيا وتقنيات أو فكر فلسفي.
ومن أبرز المفكرين المعاصرين الذين اجتهدوا في الإجابة على نفس المسألة هو المفكر (محمد عابد الجابري) لمواجهته بالنقد والتحليل للكثير من المحاولات الفلسفية الواقعية للعديد من المفكرين أمثال (عثمان أمين) و(يوسف كرم) و(عبدالرحمن بدوي) و(زكي الأرسوزي).. واعتبر ان هذه المحاولات لم تكن ناجحة بالقدر الكافي ولم تصل لأهدافها التي اتبعتها في الفكر بل قادتها إلى الوصول إلى عكس ما كانت تصبو إليه.
وللمفكر الجابري رأي معروف في نقد (الخطاب العربي) بصفة عامة و(الخطاب الفلسفي) باعتباره جزءا منه، فيجد أن كليهما خطاب نهضوي، (فشل في إخفاء تناقضاته وإضفاء ما يكفي من المعقولية على نفسه) فيجد أن الفكر العربي قد فشل في بناء خطاب متسق حول أي قضية من القضايا التي ظلت تطرح نفسها عليه طوال المائة سنة الماضية، فلم يستطع تشييد أيديولوجيا نظرية يركن إليها على صعيد (الحلم) ولا بناء نظرية ثورية يسترشد بها على صعيد الممارسة والتغيير).
فالخطاب العربي المعاصر هو نفس الخطاب يكرر نفسه منذ مائة سنة، ويكرر الحلول السابقة نفسها لمعالجة القضايا التي تطرأ على الرغم من الاختلافات الجزئية، كما أن من أكبر مظاهر الفشل أن الخطاب العربي المعاصر لا ينبثق عن علاقة حية مباشرة للتفكير بالواقع، بل إنه يعيش غيابا لهذه العلاقة، فالخلافات النظرية لا تكون نتيجة للاختلاف في تأويل الواقع وتفسيره، بل نتيجة اختلاف السلطة المعرفية كمرجع وهذا نتيجة للتبعيات المختلفة في الفكر العربي المعاصر.
ولذلك فشل الخطاب الفلسفي العربي المعاصر في إنجاز المهمتين اللتين أوكل نفسه لتحقيقهما، وهما: (تأصيل الفلسفة العربية من جهة)، و(تأسيس فلسفة عربية معاصرة من جهة أخرى).
وللمقال بقية.

( * ) عضو عامل بهيئة الصحفيين السعوديين - عضو الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
ص.ب 4584 جدة 21421
فاكس جدة 026066701


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved