يزخر هذا الوطن بأفذاذ الرجال في كافة ميادين الحياة. وهذا الرجل شخصية فذة لا يستطيع من تعامل معها أن ينساها مهما كان قصر المدة، فكيف بالذين تعاملوا معها لعدة عقود. تلكم هي شخصية الشيخ سعيد بن صالح بن محفوظ الذي انتقل إلى جوار ربه مؤخراً فكان من آخر الثمار الطيبة التي سقطت من شجرة العصاميين الحضارم الذين أقاموا في هذا البلد وأصبحوا من مواطنيه المخلصين وفتح الله عليهم في خدمة هذا الوطن الكريم المبارك.
عرفت الشيخ سعيد -رحمه الله- منذ ما يقرب من أربعين عاماً، في بداية طريقي على درب الحياة العملية، وكنت وقتها موظفاً في البنك الأهلي التجاري بجدة وكان يعمل مديراً لفرع البنك نفسه بمكة المكرمة، وعندما تم نقله مديراً للمركز الرئيسي للبنك بجدة عرفته عن قرب وأحببت فيه خصالاً قلما نجدها اليوم لأنها لا تتوفر في سن مبكرة إلا لأفذاذ الرجال.
كان سعيد بن صالح بن محفوظ منذ يفاعة شبابه يعرف كيف يفصل بين سلوكه الشخصي الإنساني وبين سلوكه الإداري الرسمي، ولا يسمح أن يجعل أي منهما يطغى على الآخر، فتراه مع الناس في بيته أو في الشارع خارج الدوام والتسامح معهم، والإحسان إليهم وخدمتهم قدر المستطاع. هذه أهم صفاته -رحمه الله-، ولهذا ظللت بعد ذلك أحرص على رؤيته وحضور مجلسه -بعد انتقالي إلى الرياض- كلما وجدت فرصة أو مناسبة عمل أكون فيها بجدة وإذا دخلت يوماً جدة ولم أزره فيها اعتبر نفسي قد خسرت شيئاً لا يقدر بمال مهما كثر مكسبي المادي في تلك الرحلة. كانت جلسته في مكتبه التي تمتد من بعد صلاة الظهر حتى الساعة الثانية يلتقي فيها بعدد من أصدقائه ومحبيه. شخصية ذات مكانة في نفوس روادها وزوارها تستمدها من محبتهم له وإعجابهم بشخصه.ولعل أهم صفات سعيد بن صالح بن محفوظ حبه للخير وخاصة الصلح بين الناس، فهو لا يطيق أن يرى خيراً يستطيع أن يقدمه للناس بماله أو جاهه فلا يفعل، وكثيراً ما سمعته يقول للمشفقين عليه من مشقة الصلح بين الناس:(كان الله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه). ولن أنسى موقفاً من مواقف شهامته ومروءته التي يتعامل بها مع من يستحقها من الذين يعرفهم أو لا يعرفهم. رجل من أسرة كريمة كان يعاني من كربة مالية صعبة، فكلمني أحد أقاربه لإبلاغ الشيخ سعيد بذلك، ولم أتابع ما حدث، وعندما زرت جدة بعد ستة أشهر علمت أنه لم يلجأ لأحد وأقرض الرجل المبلغ الذي كان يحتاجه ليقضي الدين الذي عليه وفرج عنه كربته.
والشيخ سعيد بن صالح بن محفوظ إنسان ودود لطيف المعشر لا يرد دعوة لإنسان مهما كانت مشاغله إلا حال دون ذلك فعل خير فهو يعتذر. ولذلك تعودنا منه أن يقول معتذراً (أنه لا يملك وقته). عندما يكون مشغولاً بأحدٍ من أمور الصلح بين الناس، وكان يرى أن كل أمرٍ يؤجل إلا هذا الأمر لأن له ساعة قبول عند الحي القيوم الذي يصلح بين المؤمنين يوم القيامة.وأشهد أنه كان من الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس في معظم الأحوال في الأولى وفي كل الأحوال في الثانية إلا حالة واحدة يشتد فيها غضبه وحنقه، وهو غضب نحسبه لله وفي الحق وذلك عندما يجد إنساناً يعرف الحق فيكابر وتأخذه العزة بالإثم. وكان يرى أن هذا النوع من البشر من أجهل الناس مهما بلغ علمه.
أما في المواساة والتعاطف والتآزر فقد علمني -رحمه الله- الكثير، ولن أنسى ما حييت وقفته معي عندما فقدت ابني الشاب ياسر ابن الحادي والعشرين ربيعاً -رحمه الله- سنة 1410هـ فلم يكتف بأداء العزاء كغيره من الناس، وإنما أتصل بي محاولاً تطييب نفسي المنهارة من وقع الصدمة، ثم انتهز فرصة وجوده في الرياض لحضور اجتماع مجلس إدارة إحدى الشركات فقصد مكتبي ولازمني مذكراً بالله وبالصبر والاحتساب وبالأجر العظيم عند الله، ولم يغادر إلى المطار حتى رأى نفسي تصفو وتهدأ بالفعل لأول مرة منذ الوفاة، وذلك بفضل ما جعله الله له من قدرة على تطييب النفوس وتهدئة الخواطر والصدق والإخلاص في محبة الناس وخدمتهم وتقديم كافة وسائل العون لهم. إنه صاحب مدرسة التجارة الرابحة.. تجارة الصدق مع النفس ومع الناس وخدمتهم وهذا يجعلني أتذكره دائماً عند قول الرسول صلى الله عليه وسلم(أقف على ميزان من يسعى في خدمة أخيه فإن رجع وإلا شفعت له). ونسأل الله أن يكون من هؤلاء الذين يقف رسول الله على ميزانهم ويشفع لهم ويدخلهم الله تعالى فسيح جناته بعفوه ورحمته ورضوانه.
|