قام مركز البحوث بجامعة الملك سعود بمركز الدراسات الجامعية لكليات العلوم الإنسانية بعقد ندوته السنوية الأسبوع المنصرم للعام الدراسي 1424-1425هـ. وما يدفعني للكتابة في الموضوع -مع ان شهادتي فيه قد تبدو شهادة مجروحة نظراً لمشاركتي فيه- هو خروج موضوع الندوة الذي طرح في أربع جلسات امتدت على مدى يومين متواصلين (6-7 صفر) عن النمط الأكاديمي المعتاد لقائمة المواضيع التي جرت العادة على قبول هيمنتها على اهتمام مراكز البحوث بالجامعات العربية عامة، وكذلك خروج مجالات البحث الأكاديمي (النسوي) لهذه الندوة عن التنميط الذي جرت العادة فيه أيضا على حصر مشاركة النساء في مجالات (بحث) محددة تحاول (تأنيث) فضاء البحث الأكاديمي الذي تقوم به المرأة بقصر تلك المشاركة على ما يعتقد بأنه شأن نسوي خالص وخاصة في مجال البحوث للعلوم الإنسانية بمجتمعنا.
وعامل أخير يدفعني للكتابة عن تلك الندوة هو تحررها إلى حد كبير من (البروتوكولات) الثقيلة التي صارت من مصاحبات تلك اللقاءات التي يفترض انها تعقد لأهداف علمية جادة وليس للاستعراض الإعلامي، وقد بدا ذلك في إيجاز كلمة افتتاح الندوة التي قدمتها د.نورة الشملان. وبدا ذلك أيضا في حضور عميدة المركز د.حصة المبارك، وعميدات الكليات د.سميرة قطان ود.لطيفة السميري حضوراً ملتزماً لجميع وقائع الندوة وليس حضوراً تشريفياً طارئاً.
فهل أثرت فضول القارئ بما يكفي ليستعجل دخولي إلى صلب موضوع مقال اليوم ليجد الإجابة عن تساؤل ما عساه ان يكون موضوع تلك الندوة وما هي البحوث التي طرحت فيها الخارقة لعادة التنميط في نشاط البحث الأكاديمي.
أرجو ان تكون إجابة القارئ بنعم، أما إجابتي فهي تتضح فيما يلي من التفاصيل المختصرة التالية:
لقد عقدت ندوة مركز البحوث المشار إليها تحت عنوان (الجمعيات الخيرية بالمملكة العربية السعودية.. الإنجازات والمعوقات).
ومع ان عنوان الندوة قد ينم من وهلة النظر الأولى إليه ان موضوعها من المواضيع التقليدية أو على الأقل من المواضيع غير المستفزة -بكسر الفاء- بحثياً لأنها في حكم المفروغ منه أو المتعارف عليه باعتبار ان موقع الجمعيات الخيرية في المجتمع من المواقع المستتبة التي يعرف الإنسان العادي ما لها وما عليها والتي لا تحتاج إلى جهد المعرفة المتخصصة للتعريف بها أو الوقوف عندها، إلا انه لهذا السبب نفسه كما سأجادل لاحقاً هو ما يجعل طرح مثل هذا الموضوع في ندوة تصدر عن مركز بحوث أكاديمي أمراً ملفتاً للنظر ويستحق الاهتمام والتناول لعدم عاديته ولتعميم وتنويع مبادرته، هذا من ناحية ومن الناحية الأخرى فإن طبيعة وفحوى البحوث التي قدمت في تلك الندوة هي ما يجعل من مواضيعها تخطياً لمحاولة قسر الجهود البحثية للمرأة في المجال الأنثوي وحده الذي ليس لنا اعتراض على عملها البحثي فيه وليس لدينا تشكيك بقيمته العلمية إلا أنه ليس المجال الوحيد الذي يمكن ان تبدع فيه المرأة بحثياً ومعرفياً.
ويمكن للقارئ الراغب في الاستزادة الاستدلال على ما أذهب إليه بالاطلاع على تلك البحوث من مصادرها أو ملخصاتها المنشورة في كتيب صادر عن مركز البحوث. وإن كنت مضطرة هنا لضيق الحيز ان أكتفي بذكر عناوينها التي جاءت محملة بدلالات مضامينها وتنوعها في الانشغال بحثياً بالشأن العام من خلال دراسة الجمعيات الخيرية كواحدة من مؤسسات المجتمع الرامية إلى المشاركة بالمجهود الأهلي والتطوعي لمعظمه في تلبية خدمات معينة من حاجات مواطنيه نساء ورجال. وقد كانت عناوين البحوث على التوالي:
- التمويل في الجمعيات الخيرية النسائية بالمملكة العربية السعودية، للدكتورة وفاء المبيريك من جامعة الملك سعود فرع القصيم.
- دور الجمعيات الخيرية في مشاريع تنمية الأحياء الفقيرة ومعالجة مشكلة الفقر، للدكتورة هالة بخش من جامعة أم القرى بمكة المكرمة.
- اتجاهات الصحافة السعودية نحو الجمعيات الخيرية للدكتورة الجوهرة الزامل والدكتورة عزة عبدالعزيز من جامعة الملك سعود.
- الرقابة المالية بين الواقع والمأمول في الجمعيات الخيرية، للدكتورة آمال فودة، كلية العلوم الإدارية.
أما جدلي في وجهة النظر الأولى فيتأسس على القول بأن تبنّي مركز البحوث لعقد ندوة عن الجمعيات الخيرية كان فيه شيء من الجرأة الأدبية على نمطية ما يتم تناوله عادة من مواضيع في حيز الدراسات الأكاديمية ومراكز البحوث الجامعية، فلقد درجت معظم مراكز البحوث للدراسات الإنسانية في عدد لا يستهان به من الجامعات في الوطن العربي بما فيها جامعاتنا على ان تنأى بنفسها عن الخوض في المواضيع (اليومية) المتعلقة بالقطاع العريض من الناس و(برجل الشارع) وبالرأي العام خاصة تلك المواضيع ذات الطبيعة المتشابكة في قراراتها بين المؤسسات الأهلية، بين المواطن العادي وبين الحكومات. ولذلك فقد بقيت معظم المراكز البحثية في رأي العامة على الأقل بعيدة عن التأثير في صناعة القرار الذي يهم الناس ويكون لصالح تطوير أوضاعهم نظراً لأنها تبتعد إذا لم تكن تتجنب البحث الذي يقدم المعلومة الإحصائية ويقدم التحليل العلمي والنقد الهادف الذي يمكن ان يمد أصحاب القرار السياسي بالمعرفة الموضوعية للواقع وعن الواقع والتي لا غنى عنها لتلك القرارات إذا كانت تريد ان تحقق (تشريعياً وتنفيذياً) ما فيه إصلاح ذلك الواقع والنهوض به. وإن كان ليس مجالاً للجدل والنقاش هنا الوقوف عند الأسباب الحقيقية أو (المتوهمة) التي تدفع مراكز البحث العربي للابتعاد عن الخوض في مثل تلك القضايا الحيوية من قضايا الواقع والانشغال عنها بالمسائل الابستمولوجية -المعرفية الصرفة عوضاً عن القيام بتلك المهمة أو تهرباً منها فلا بأس من ذكر بعض تلك الأسباب عرضاً وباختصار لانه يسهم في توضيح الأهمية المعرفية والميدانية معا لندوة مركز البحوث في اختيارها لموضوع (الجمعيات الخيرية) قضية لبحوثها.
ومن بين تلك الأسباب التي تنأى بالبحث العلمي في العلوم الإنسانية عن الواقع: الترفع (المعرفي) عن ذلك الواقع بدعوى الحياد الموضوعي للباحثين، السقف الخفيض المتاح لحركة البحوث العلمية ولتقبل الباحثين في مؤسسات النفع العام سواء كانت حكومية أو أهلية، عدم المواكبة الأكاديمية للتوجهات الجديدة في مراكز البحوث العالمية والتي صارت تعنى بالعمل التطبيقي والميداني خلافاً لما كان عليه الأمر إلى وقت قريب إذ صارت تراه مصدراً وليس مجرد رافد لتطورها النظري.
ومن هنا جاء اختيار عنوان (الجمعيات الخيرية) عنواناً لأبحاث هذه الندوة تجديداً في نمط الموضوعات البحثية المطروقة عادة، فموضوع الجمعيات الخيرية موضوع يتعلق بصلب الواقع الاجتماعي نظراً لعلاقته المباشرة بكل النقاش الدائر اليوم في الوسطين الأكاديمي والعام حول المجتمع المدني وتطوير مؤسسات العمل الأهلي في إطاره، بل ان الجمعيات الخيرية بصيغتها الحالية وفي ارتباط التطورات التي شهدت ولا تزال تشهدها في علاقتها بخطط التنمية لم تولد إلا في أحضان تأسيس المملكة العربية السعودية كدولة عصرية ومجتمع موحد. هذا بطبيعة الحال دون أن يعني ذلك أننا نلغي الأشكال المؤسسية التاريخية للعمل الخيري الذي تأسس على أرض الجزيرة العربية وخرج منها إلى العالم منذ فجر الإسلام حيث تعتبر الحضارة العربية الإسلامية من أعرق الحضارات الإنسانية ومن أقدمها في تقنين العمل الخيري كمسؤولية أساسية من مسؤوليات الدولة والمجتمع وفي إيجاد آليات دائمة له القرض الحسن، الأوقاف والزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام.
وبالإضافة إلى هذا هناك حقيقة ما توصلت إليه إحدى الباحثات لهذه الندوة في بحثها عن دور الجمعيات الخيرية في معالجة الفقر حيث وجدت ان للجمعيات الخيرية على المستوى العالمي اليوم علاقة مباشرة بتوق الشعوب لتصبح بفئاتها المعسرة والموسرة معا شريكا في وضع الاستراتيجيات التي تسهم في توطين العدالة الاجتماعية بمفهومها السياسي والاقتصادي. كما أشارت إلى أن أحد المقاييس المعاصرة لخط الفقر في العالم اليوم تتحدد بمدى قدرة الفرد على المشاركة الاجتماعية والسياسية وليس فقط القدرة على ان يجد ما يلبي الضرورات المعيشية من مسكن وملبس وتعليم وعلاج.
وقد أثر موضوع الندوة وارتباطه بالواقع على نوعية (الحضور) أو بالأحرى الحاضرات لهذه الندوة عن الجمعيات الخيرية ونوع النقاش الذي دار. بما يشكل مؤشراً ذا دلالة على نجاح مثل هذه الموضوعات في كسر حاجز العزلة بين الناس وبين مراكز البحوث، فعلى خلاف الكثير من الندوات البحثية التي يقتصر حضورها على المهتمين الأكاديميين وحدهم كان جمهور هذه الندوة متنوعا ومتعددا. فإلى جانب المتخصصات في العمل الأكاديمي كان هناك العاملات في العمل الخيري والمتطوعات فيه والمستفيدات منه أو المكلفات به على مستوى الاهتمام الشخصي والوطني أو المهني. وقد جاء عدد منهن من مختلف مناطق المملكة: القصيم، مكة المكرمة، المنطقة الشرقية.. الخ.
فكان هناك عدد ممن قام على أكتافهن العمل الخيري كعمل مؤسسي وخاصة في مجال الجمعيات الخيرية النسائية ومنهن مواطنات تفانين في العمل الخيري كالأميرة سارة بنت محمد والأميرة موضي بنت خالد والأميرة نورة بنت محمد والأساتذة شريفة الشملان، أ.جوهرة الوابل، أ.مريم بوبشيت، أ.ناديا بتون. وهذه ليست إلا أسماء قليلة من تلك الوجوه المضيئة التي أثرت النقاش من واقع انغماسها في تجربة العمل اليومي المعاش دون ان تكتفي بذكر المنجز ودون ان تستحي في الحق لذكر أوجه القصور وتبادل الآراء حول مواجهة المعوقات.
كما ان استقطاب تلك الندوة لعدد من الصحفيات والإعلاميات -ومنهن أيضا على سبيل المثال لا الحصر أ.سحر رملاوي، أ.سلوى العمران، أ.نوال بخش، أ.هنية الخالدي، أ.سلوى شاكر- كان مختلفاً إذ إن حضورهن لم يكن كالمعتاد للتغطية الإعلامية ولكنه كان حضوراً معنياً للمشاركة في النقاش والحوار وخاصة في تلك الجلسة التي خصصت بحثها في موضوع العلاقة بين العمل الصحفي والإعلامي وبين الجمعيات الخيرية.
أما حضور عدد من الفتيات والسيدات المشرئبات للمشاركة في صنع مستقبل أكثر جمالاً وتكافؤاً لهذا الوطن ممن حرمن نعمة السمع أو النطق ولكنهن يتمتعن بقدرات عقلية وعلمية ووجدانية متفوقة على أي شكل من أشكال الإعاقة الجسدية فقد كانت مساهمة حقيقية من خلال النقاش والحوار لموضوعات بحوث الندوة التي شاركن بها عن طريق لغة الإشارة ومنهن أ.انتصار الهدلق، أ.نجلاء الدهامي والتي قامت بترجمتها أ.لطيفة الفهيد. فقد توج وجودهن تلك الندوة بتحديد مطالب عملية من شأنها لو فعلت ولم يكتف فيها كما قالت -أ.انتصار الهدلق- بتوصيات تنتهي في الصحف وتؤول إلى النسيان، أن تجعل المجتمع بأسره يتغلب على الكثير من إعاقات التخلف والتهميش أو الحياد السلبي.
هذا وقد كان لعدد من النساء أعضاء هيئة تدريس وأستاذات وفنيات وطالبات دور مشرق وقد وقفن كجنديات مجهولات ولكن متفانيات يعطين صورة تعاونية اخاذة لنجاح العمل الجماعي وعمل الفريق الذي بدونه لا ينجح العمل البحثي.
|