Wednesday 31th March,200411507العددالاربعاء 10 ,صفر 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

بعد عام من القرصنة الأمريكية على العراق هل يعي العملاء والانتهازيون الدرس؟ بعد عام من القرصنة الأمريكية على العراق هل يعي العملاء والانتهازيون الدرس؟
عبدالله الماجد

تقول إحدى الحكايات، في مأثورتنا الشعبية التي كان يقصها علينا أجدادنا، إن (ثعلباً) تحيّن الوقت لاقتناص(الدجاج) في إحدى المزارع، وحين تهيأ لمعركته تلك، كان عليه أن يقفز أمتاراً في وثبة واحدة حتى يستقر في داخل(الحوش) الذي به الدجاج، ساعده في ذلك أنه كان جائعاً خفيف الوزن، وقد بدأ يلتهم الدجاج مسعوراً وفي معاجلة للوقت حتى لا يشعر به صاحب المزرعة، وقد تعالت أصوات الدجاج فزعاً، وانتفخ بطنه، وزاد وزنه، وحينما هبّ للوثوب مرة أخرى محاولاً إعادة قفز(الجدار) كما فعل أول مرة، لم يستطع لأنه أصبح ثقيلاً ومتخماً، فخارت قواه، فيما شعر(المزارع) بما حدث، وتنبه إلى أن هذا المعدي الذي سطا على(الدجاج) لايزال بالداخل، فقفز عليه من نفس المكان الذي أتى منه، ولم يشأ أن يفتح الباب له فيعاجله في الهرب، وأشبعه ضرباً حتى نفق.. وقد كنا نتوق إلى هذه النهاية السعيدة لمعتد آثم، ونصفق لها ونحن أطفال.
تذكرت هذه الحكاية الطريفة، وأنا أتدبر ما آل إليه واقع وحال أكبر قوة في العالم (الولايات المتحدة الأمريكية) وكيف قفزت آلاف الأميال، لتمارس الاعتداء على الدول البعيدة وعنها، وتقفز الأسوار لاصطياد آلاف البشر، دون أن تتمتعن فيما حلّ بها عبر أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م.. أترك للقارئ أن يمازج بين الرموز والأحداث في حادثة الثعلب، وحوادث ردود الفعل التي قامت بها بدءاً من احتلال أفغانستان والعراق، وقبل كل ذلك استمرارها في رعاية إسرائيل ودعمها في استمرار عدوانها على العالم العربي منذ بروز هذا الكيان الصهيوني.
الاستقراء التاريخي للأحداث في أحد مناحيه، يُذكر بما آلت إليه القوة النامية المتصاعدة للنازي الألماني، وكيف أغرته القوة أن يهب للاستيلاء على أمم وشعوب تختلف في إرثها التاريخي والديني، عما كانت عليه قوته وفكر أمنه، وقد أثبت انهيار هذا الطغيان أن القوة لا تقهر المبادئ المتجذرة في تكوين الأمم والشعوب.. وإلا لتم الاستيلاء على شعوب شرق آسيا، وتم هزيمة أصغر قوة تعرضت لجبروت القوة الأمريكية(فيتنام) يتم تدبر هذا الفكر، بعد عام من إقدام هذه القوة الكبرى(الولايات المتحدة الأمريكية) على غزو العراق، كمقدمة لوضع قوتها وكيانها في مركز لغزو بقية بلدان العالم العربي، تحت مسميات، تُسوّق لها. لقد أفلست دعوى مسببات غزوها للعراق، وتم فضحها أمام شعوب بلدانها وهي وبلدان العالم، ولم يبق من تلك الأسباب إلا أن ترفع لواء الإصلاح و(الديمقراطية) ورعاية حقوق الإنسان.. وكأن هذه الأمور لم تكن تعينها على مدى تاريخها الطويل، أو كما لو كانت هذه الشعوب على حالة من البؤس والقهر، تستدعي منقذ الإنسانية وحامل لواء الشرف الإنساني، عندما اجتاحت هذه الشعوب الأمريكية قارة آمنة بسكانها وأبادت منهم أكثر من مائة وعشرين مليوناً، بدعوى أنهم صنف من البشر الوحوش.. هذه الثقافة هي التي أنبتت هذا الفكر البشع الذي يتخذ من الاستعلاء البشري والسمو في النسق الإنساني ما يبرر له احتلال شعوب العالم الأخرى، كما فعل(النازي) الذي شعر بسموه وتميزه، حين حاز امتلاك القوة، جاعلاً العقل في غيبة عن تدبر مآل الأمور فيما كان لب الفكر الألماني المؤسس ينادي بتفضيل العقل والحكمة على ما سواهما، وهو جماع فكر(كانط) رائد الفلسفة في بزوغ العصور الحديثة، وهو الألماني، صاحب السمو العقلي، لكن حينما زاغ العقل عن تدبر فحوى وسر القهوة انهزم العقل كنه المعرفة ولبابها الأسمى، مفضلاً عن فهم خاطئ، اعتناق مبدأ(نيتشه) في فكرة القوة.. على نحو آخر لم يكن شاعر الأمريكان (والت ويتمان) الأنجلو ساكسون بمثل فيلسوف الألمان كانط ( الآري).. حيث كانت عاطفة الشاعر تصفق للفرح الآني وتسرح عاطفته بعيداً ليغني للعلم الذي يرفرف على العالم(ليحيط المحيط بالمحيط) كما عبر عن ذلك منذ عام 1871.
ما الذي حدث في الفكر السياسي الأمريكي، حتى يتبنى ما كان يعاديه طوال سنوات الحرب الباردة مع غريمه الاتحاد السوفياتي(طيب الذكر) مع اختلاف المسميات في المدلولات الفكرية المستعملة لأغراض سياسية؟.. الأمريكان الآن يؤمنون بمبدأ سياسة توزيع الثروات، إنهم(شيوعيون) أكثر من أتباع(ماركس) ويؤمنون بنشر المبادئ الفكرية التي تنص على(العدل) و(المساواة) و(حقوق المستضعفين)، وقد نتوهم أن(مستر بوش) هو(الرفيق لينين) أو(خرتشوف).
إنها لعبة السياسة.. أصبح الرأسمالي الأمريكي، راديكالياً يوزع الثروات على المستضعفين، ويؤمن بحقوقهم، بشرط أن يمتلك هو(الثروة) ويوزعها بطريقته هو.
إذا ما تم تدبر الأحداث بعد عام من(السطو) على العراق، وبصرف النظر عن سقوط كل الدعاوى والمسببات لقيام هذا الغزو واستلاب وطن عربي بأرضه وشعبه، ووضعه رهينة للهيمنة تتضح عدة أمور هامة لابد من وضعها موضع التعامل في مواجهة الفكر الإستراتيجي الأمريكي الموجه نحو المنطقة وشعوبها.
- سقوط فكرة الدعوة إلى بناء مجتمعات وحكومات ديمقراطية على الطريقة الأمريكية، إذ لم يتحقق ذلك بعد عام من غزو العراق واحتلال القوة الأمريكية التي تدير شؤون هذا القطر.
- ارتباط فكر المطالبة بالإصلاح في الدول العربية، لتتوائم مع المصالح الأمريكية، وإلا لكانت هذه الدعوة قد اثمرت في العراق ذاتها.. ولابد أن تبدأ برامج الإصلاح بعد إزاحة الهيمنة الأمريكية عن المنطقة، وبعيداً عن ارتباطها بأي دعاوى وهيمنة أمريكية، وإلا لأصبحت منتجاً أمريكياً مرتبطاً بها.
- النموذج الأمريكي في العراق محفز للمواجهة ومجابهته، واعتراض تطبيقه في أي بلد عربي.. ولابد من مواجهته باعتراض حكومي وشعبي، فماذا حدث في العراق بعد احتلاله؟:
* تم القضاء نهائياً على البنية الأساسية في العراق، التي أنفقت عليها مئات المليارات وأصبحت كأن لم تكن.. وتتبنى الدولة الأمريكية التي دمرتها إلى إعادة بنائها من أموال دول لم تشارك في التدمير، ومن عائدات النفط التي تبيعه للشركات الأمريكية بأربعة دولارات، فضلاً عن منح هذه الشركات معظم عقود الإنشاء والتشييد.
* تشريد وتسريح فئات الجيش العراقي، واختفاء المعدات التي كان يمتلكها هذا الجيش.. ومحاولة إعادة بناء قوة أمن داخلي(الشرطة العراقية) أي أن العراق سيبقى دون قوة دفاع.
* فتح السجون العراقية، وامتلائها بأبناء الشعب العراقي.. فبدلاً من أن يتم هدم السجون، تم فتحها مرتين المرة الأولى أثناء الغزو، حيث تم إطلاق السجناء لينهبوا الآمنين ويعيثوا فساداً في المرافق.. وإعادة فتحها مرة ثانية للزج بكل معارض للغزو فيها.. لقد امتلأ سجن(أبو غريب) بأبناء الشعب العراقي، ورصدت فيه وقائع عديدة لانتهاك حقوق المسجونين قام بها ضباط أمريكيون ولتصور عدد من زج بهم في هذا السجن(دون غيره من المعتقلات الأخرى) تم إطلاق سراح أكثر من ثلاثمائة مواطن عراقي دفعة واحدة!.
* نهب ذاكرة الأمة العراقية، التي تمثلها آثارها وهي تعتبر من أقدم الآثار في التاريخ الإنساني، فضلاً عن تعطيل الدراسة في الجامعات والمدارس العراقية، حتى يتم تغيير المناهج الدراسية، التي تم إعادة كتابتها برؤية أمريكية..(وقد تم طبع هذه الكتب خلال هذا الشهر في أهم مراكز الطباعة العربية في بلدين عربيين عبر مناقصة دفع تكاليفها نفط العراق بسعر أربعة دولارات للبرميل).
كما تم نهب مخازن الكتب ومحتويات المكتبات الجامعية، وتعتبر العراق من أهم المراكز العربية في إنتاج الكتب، ويجري تداول إعادة بيعها في سوق الكتب العربية(وقد وصلت إلى قوائم بعض هذه الكتب المعروضة للبيع).
* إذكاء روح النعرات الدينية والمذهبية، وهو أمر بالغ الخطورة لتوفر التربة المنبتة لهذه النعرات في بلد كالعراق.. ولعل تشكيلة ما يسمى بمجلس الحكم المحلي، وقراءات متأنية للدستور المؤقت أو(قانون الحكم) كما يسميه بعض العراقيين تكفي للدلالة على ما يؤسس لإذكاء هذه الروح وإشاعة الفتنة الطائفية.
* قيام مقاومة عراقية للاحتلال، وهو أمر طبيعي في حياة الشعوب التي يتم احتلالها.. ولكن الأمر الخطير في هذا الشأن هو اختلاط أعمال المقاومة بأعمال تندس وتتبنى أعمال المقاومة، فتسعى إلى استهداف رجال الدين وأئمة المساجد وتدمير المنشئات المدنية واستهداف المدنيين.. وهذه الأعمال مشكوك في فحواها لقد تم فتحد حدود العراق أمام أخطر المتربصين بالعرب وبهذا البلد، لقد تم رصد وفود من الإسرائيليين عشية الغزو وما بعد وحتى الآن.. كوادر(الموساد الإسرائيلية) يتمتعون بحضور دائم في الحياة العراقية يفعلون ما يشاؤون، وهم ضالعون في كثير من العمليات التي يتم نسبتها للمقاومة العراقية أو للمقاومة العربية، أو حتى لتلك التي تنسب لمنظمة القاعدة، أو لجماعة الزرقاوي، لقد اختلط الحابل بالنابل، وإدارة إنقاذ العراق تتفرج، وتصفق لما يجري داخل الغرف المقفلة!.
ولا يزال المسرح مكشوفاً، كل يوم تتم على خشبته أدوار مهينة، تصور مهانة المواطن العراقي، الذي لم يعد آمناً على عرضه، وعلى لقمة عيشه.. يشكو من قلة الدواء والعلاج، ولقمة عيشه، الآن يبحث المواطن العراقي عن الدواء وعن لقاح للأمراض المتفشية، وحيث لا يمكنه ذلك، لا يمكنه الآن تلقيح النخيل رمز الحياة والنماء في العراق.
وكأن هذا البلد، تاريخ لهذه الأمة، تقرأ فيه انتصاراتها وهزائمها، فكانت حكمة (حمورابي) البابلي تأسياً لنسق من القوانين الإنسانية القديمة، حتى شهد حكم (بختنصر) الكلداني 587 ق.م قضية السبي البابلي، ثم كانت على موعد مع عصر العرب الذهبي في الحضارة العلمية والأدبية وتألق فيها(الرشيد) وعصر ابنه(المأمون) ثم شهدت عصر هزيمتهم، وضياع دولة العرب، حيث كانت هي البوابة والمعبر الذي عبرت منه جيوش(التتر) وبعد ذلك لم تكن نسياً منسياً، ظلت هي ذلك الألق الذي يُغري المغيرين، ولنكاية تاريخية كانت بداية استعمار العرب في العصر الحديث، تبدأ من العراق، حيث احتلها البريطانيون في مطلع القرن الماضي ليعيدوا تشكيل وفسفسة خارطة هذا الوطن العربي!.. وها هو التاريخ، كما لو كان مصراً على أن يعيد نفسه ومن ذات المكان.
لقد كان العراق، وما جرى فيه فداء لهذه الأمة ولشعوبها، لتتذكر ولتعتبر، وتقف في وجه هذا القادم إلى هذه الأرض.. إن الأمن الذي تنعم به الآن شعوب هذه الأمة، وعلى أي قدر، خير من فردوس مزيف آفق منتهز مترصد لنهب مقدرات أمتنا.. إن البحث عن إصلاحنا، وإعلاء ديمقراطيتنا لم يكن في يوم من الأيام شأناً أمريكياً قبل ذلك.. إنه شأننا وحدنا.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved