Monday 29th March,200411505العددالأثنين 8 ,صفر 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

مجادلات حول التنمية الإنسانية العربية مجادلات حول التنمية الإنسانية العربية
عبد الرحمن الحبيب

مثلما واجه سابقه، تعرض تقرير (التنمية الإنسانية العربية 2003) الأخير الصادر من هيئة الأمم المتحدة إلى نقد حاد لا يخلو من سخرية. وقد سبق أن استعرضتُ التقرير في مقالتين، وهنا مناقشة أهم الانتقادات لهذا التقرير، دون التعرض للإطراء الذي ناله التقرير من قبل البعض الآخر.
وكان التقرير طرح خطورة المبالغة في الحس الأمني لدى الأنظمة العربية، أو التنصل من الإصلاح نتيجة المغالاة في التحديات الخارجية.. مما يشجع على مصادرة الحريات وحقوق الإنسان. ويعتبر التقرير أن الإصلاح من الداخل المتأسس على نقد رصين للذات، هو البديل الصحيح لمواجهة المخاطر الخارجية.
وأشار التقرير إلى تدني أهمية الكتاب في العالم العربي، ومعاملة الكتاب كسلعة محظورة تخضع للرقابة الصارمة. ويرى ضرورة الشروع بإصلاح لغوي شامل.
وينبه التقرير إلى أن استيراد التقنية المتقدمة دون تطوير أدوات المعرفة يؤدي إلى عدم توطين هذه التقنية، موضحاًً أن اقتصاد الريع القائم في أغلب الدول العربية يشجع على الإنفاق والاقتناء وليس على الاستثمار وتنظيم الإنتاج.
وتناول التقرير العلاقة الوثيقة بين اكتساب المعرفة والتنمية الاقتصادية مبيناً أن تعافي النمو الاقتصادي وزيادة الإنتاج شرطان ضروريان لقيام نهضة معرفية عربية.
ويدعو التقرير إلى استقلال المعرفة عن المجال السياسي في الدول العربية كشرط أساسي لإقامة مجتمع المعرفة، لتكون المعرفة بمنأى عن أدوات الإرغام والاستغلال السياسي، ولكي لا يقع الباحثون العرب والمؤسسات العلمية فريسة للاستراتيجيات السياسية والولاء السياسي.
وخلص التقرير في تحليله للوضع المعرفي في البلدان العربية بوضع توصياته من خلال طرح رؤية استراتيجية تنظيمية لمجتمع المعرفة..
كمية النقد وحدته لهذا التقرير كانت أقل مما حدث للتقرير السابق 2002، ربما نتيجة أن التقرير السابق كانت عبارة عن صدمة مفاجأة، بينما الثاني يراه البعض تكراراً للأول.
وفي تقديري أن الثاني يختلف نسبيا عن الأول بتركيزه على مفهوم (مجتمع المعرفة) حيث يتعاظم نفوذ المعرفة وأدواتها ووسائلها وأساليبها الجديدة لدرجة تتوازى مع نفوذ الاقتصاد وتلتحم معه.
كما أن التقرير الحالي تناول علاقة الأبعاد الدولية بمأزق التنمية في العالم العربي، وذلك ربما تلافياً للنقد الحاد الذي تعرض له التقرير السابق كونه لم يعط الأبعاد الدولية الاهتمام الكافي. وربما أيضاً تلافياً للذات النقد الشديد الذي وجه لما سمي تشاؤماً أطلقه التقرير السابق، فإن التقرير الحالي يُثني على التقدم الذي أحرزته بعض الدول العربية في مجال وسائل الاتصال وتقنية المعلومات وانتشار التعامل مع الانترنت، رغم أنه يشير إلى تخلف مريع في المنطقة العربية في هذا المجال.
من الناحية الشكلية، يرى البعض أن التقرير سياسي وليس مهنياً أو علميا محايدا.. وأن كُتَّابه من الناشطين في مجال حقوق الإنسان وليسوا من الباحثين المتخصصين.. مما يوحي بتأثير العاطفة غير الموضوعية والمبالغة في صياغة التقرير.. خاصة ما قيل عن المقارنات الاعتباطية المحبطة بين الدول العربية ودول أوربية صغيرة.. بل ذهب البعض لدرجة التشكيك في النوايا، وفي توقيت العاطفة العنيفة لهذا التقرير في ظل الأوضاع العالمية الراهنة، حيث تضغط جهات خارجية على العالم العربي من أجل التغيير لمآرب تخصها، خاصة الثقافي منها، مما يلقي بظلال الريبة على الغرض السياسي من هكذا تقرير بهذه المواصفات، كما يزعم البعض.
ولكن مهما قيل فإن التصريح بالعيوب ينبغي أن يستمر بغض النظر عن الملابسات الدولية والأزمات التي يعيشها العالم العربي، فالتغاضي عن هذه العيوب يعني عدم التطرق إليها مطلقاً لأن عالمنا العربي لم ينفك غارقاً في الأزمات الدولية الحادة منذ عقود.. فهل الطبيب الذي يخبر مريضاً عن سوء حالته يعد مشكوكاً في نواياه لأنه أثار في روح المريض حالة من اليأس والاحباط ؟ فهذه محاسبة لمحصلة النتائج التي يتوصل إليها الناقدون دون تحليل النتائج ومناقشة المواضيع ذاتها.. عبر تحليل مدى صحة التشخيص والمنهجية والبيانات والأرقام والمقارنات والشواهد التي يطرحها التقرير.
وفي تحليل النتائج ومناقشة المواضيع ذاتها (الناحية المنهجية والمعرفية) يتهكم بعض النقاد من مفهوم (مجتمع المعرفة) الذي أشار إليه التقرير باعتباره( السبيل السليم لمجابهة التحديات الإقليمية والعالمية)، ويرون أن في التقرير مغالاة في النقد الذاتي (العامل الداخلي) مقابل نقد غير كاف للتأثير السلبي للعوامل الخارجية وتحدياتها، رغم أن التقرير انتقد وأوضح علاقة الأبعاد الدولية (احتلال فلسطين والغزو الأمريكي للعراق) وتأثيرها السلبي على التنمية في الدول العربية، إلا أن النقاد يرون أن هذه العوامل والتحديات الخارجية (الاستعمار القديم، وعد بلفور، سايكس - بيكو، احتلال فلسطين، الهيمنة الأمريكية واحتلال العراق..) هي السبب الرئيس لإعاقة التنمية الإنسانية في العالم العربي وليست ذات تأثيرات سلبية فقط، مثلما فعل الكاتب منير شفيق الذي يرى أنه (ببساطة لا إصلاح ذاتياً إلا بتحرير الإرادة وعبر المواجهة لتلك التحديات..) وأن أقانيم التقرير الثلاثة: الحرية، والمعرفة، وتمكين المرأة لا سبيل إلى اصلاحها مع وجود مقاومة أو ممانعة المخططات الخارجية..
وعلى المستوى الاقتصادي ينتقد منير شفيق بشدة التقرير لأنه لم يوضح التأثير السلبي لضغوط صندوق النقد والبنك الدوليين والديون الخارجية على الدول العربية، فضلاً عن عدم معرفته لتأثير النظام الاقتصادي العالمي الجائر وكيف يفرض تغيير القوانين المحلية مما يؤثر على علاقة الدولة والمجتمع بالاقتصاد والخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية والتعرفة والضرائب والسوق وحرية الاستثمار الأجنبي وحقوق الملكية وحتى خصخصة الماء والثروات الوطنية الأساسية..
إذاً الاختلاف الجوهري هو الإجابة حول أولوية من العوامل الداخلية أم العوامل الخارجية لإصلاح مجتمعاتنا العربية؟ فمواجهة التحديات تتم داخلياً ببناء مجتمع المعرفة كما يراها التقرير، بينما يرى منتقدوه أن بناء مجتمع المعرفة لن يتم إلا بمواجهة التحديات الخارجية! وهذا الرأي الأخير يعني أن لا نعطي أولوية لقضايا الإصلاح الداخلي والتنمية الاقتصادية والانسانية وحقوق الإنسان والتخلص من الاستبداد والفساد، بل نركز على مواجهة الضغوط الخارجية وأطماعها! وأزعم أن تأثيرنا على العوامل الخارجية محدود ولا مناص من تبني فكرة التقرير (أي الإصلاح الداخلي)، فلقد أصبح مملاً وغير مجد أن نلقي تهمة تخلفنا على الخارج (الغرب) ونهرب من النقد الذاتي، فيما كل شعوب الأرض تمضي قدماً من خلال انجازاتها الداخلية معتبرة شتم الخارج أو إلقاء اللوم عليه مسألة عاطفية لن تنجز منفعة حقيقية.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved