المفروض أن تكون الكتابة, هذا اليوم, استمراراً في الحديث عن (أمركة منطقتنا الإسلامية)؛ وهو الحديث الذي سبق نشر حلقتين منه. لكن اغتيال الشهيد المجاهد في الله حق جهاده, ابن فلسطين البار, الشيخ أحمد ياسين, فرض نفسه, وأصبح من الأجدر الكتابة عنه, وتأجيل بقية الحديث عن الأمركة إلى الأسبوع القادم إن شاء الله.
كل ما حدث منذ فجر يوم الاثنين الماضي من جريمة اغتيال الشيخ أحمد ياسين ورفاقه, والمواقف التي أُعلن عنها في كل مكان, لم يكن غريباً. بل الغريب لو لم يحدث. هناك شهيد مضت روحه إلى بارئها, وهناك مجرم ارتكب جريمته مفتخراً بارتكابها, وهناك شهود من مناطق مختلفة في العالم على عملية ارتكاب هذه الجريمة.
أما الشهيد, الشيخ أحمد ياسين, رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنّاته فقد اختار منذ صباه سلوك طريق الجهاد في سبيل الله, الذي أمر الله عباده المؤمنين بسلوكه في محكم كتابه العزيز, الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, وسلكه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الغرُّ الميامين, رضوان الله عليهم أجمعين, كما سلكه كل من اتّبع منهجهم وسار على دربهم عبر القرون. ومنذ أن بدأ ذلك الشيخ الجليل خطوته الأولى وهو يعلم أن طريق الجهاد هو الطريق السويّ إلى نيل الشهادة للتنعُّم بالرفقة الحسنة مع من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, أو الفوز بنصر الله على أعدائه تمهيداً لإقامة شريعته الربانية التي يستحيل أن يرقى أي نظام بشري إلى مستواها؛ عدلاً وحُسناً وحكما. فكان ذلك الشيخ باختياره الطريق الذي اختار السير فيه مستعداً لتحمل جميع مسؤولياته ومقتضياته. ولذا لم تمنعه الإعاقة البدنية عن العمل, ولم يزده السجن إلا تمسُّكاً بما رآه الحق - وهو الرأي الصائب - ولم تخفه المحاولات المتكررة لاغتياله لأنه يؤمن كلَّ الإيمان أن ما قدَّره الله لا مردَّ له. والقلب إذا عمره الإيمان بالخالق وقدره لا يمكن أن يتسرَّب إليه الخوف من المخلوق مهما كانت سطوته وجبروته.
كان صبر الشيخ أحمد ياسين على شدائد البلوى في سبيل الله زيادة درجات له عند بارئه, الذي وعد - جلَّ وعلا - الصابرين, كما كان رفعة له في عيون المؤمنين بالله؛ رباً وناصراً, وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً مجاهداً, وبدينه دين الإسلام؛ عقيدةً وشرعاً.
وكانت خاتمة عمر ذلك الشيخ المجاهد الصابر نيل الشهادة بعد أدائه صلاة الفجر مع إخوته المؤمنين في بيت من بيوت الله رفع ليذكر فيها اسمه سبحانه وتعالى؛ وهي شهادة تحمل أوضح الأدلة على إكرام خالقه له بأن تكون له مثل هذه الخاتمة الحسنة... بنفسٍ مطمئنةٍ راجعة إلى ربها راضية مرضية بمشيئته من وعد عباده المجاهدين الشهداء بأن لهم جنّات الفردوس نزلا. فما أنبل سيرة ذلك الشيخ! وما أعظم جهاده وصبره! وما أحسن خاتمته! وما أجدره بنيل ما وعد به من لا يخلف الميعاد!
وأما مرتكب الجريمة النكراء فارتكابه لها لم يكن غريباً. وما تاريخه الشخصي, ولا تاريخ قيادات الكيان الذي وصل إلى رئاسته، غير سجل يجعل هذا الارتكاب أمراً مألوفاً. كان تاريخ شارون الذي افتخر انه المسؤول المباشر عن اغتيال الشيخ أحمد ياسين, مليئاً بارتكاب الجرائم منذ الخمسينات من القرن الميلادي الماضي. وما كانت رعايته المباشرة لمذبحة صبرا وشاتيلا الفظيعة إلا واحدة من تلك الجرائم, ثم تجلّت جرائمه في مصادرة الأراضي الفلسطينية المحتلة, وإقامة مستوطنات عليها للصهاينة القادمين إلى هذه الأراضي من كل فج ونهج, وذلك عندما كان وزيراً مسؤولاً عن هذا الأمر. ومنذ أن اختاره الصهاينة رئيساً لوزرائهم وهو يشنُّ حرب إبادة ضد الفلسطينيين؛ لا فرق بين كبيرهم وصغيرهم.. رجالهم ونسائهم.. شيوخهم وأطفالهم ، وفي الفترة الأخيرة قام ببناء جدار فصل عنصري التهم كثيراً من الأراضي الفلسطينية التي احتلها الصهاينة عام 1967م, واستمرأ ممارسة اغتيال قادة المقاومة؛ وبخاصة زعماء حماس. وها هو ذا الآن يتبجح, مفتخراً بارتكاب جريمة اغتيال الشيخ أحمد ياسين البشعة, ومتوعداً بارتكاب جرائم مثلها ضد جميع قيادات المقاومة من حماس وغيرها. وهو بهذا يتحدَّى قادة العرب, ساخراً بهم, قبيل انعقاد مؤتمرهم في تونس تماماً كما تحدَّاهم, مستهزئاً بهم, فور انتهاء مؤتمرهم في بيروت, الذي أطلقوا فيه واحدة من مبادراتهم غير المكترث بها من قبل أعداء أمتنا.
وكان تاريخ القادة الصهاينة - قبل قيام كيانهم عام 1948م وبعد قيامه - هو الآخر مليئاً بالجرائم: لا فرق بين من كانوا من حزب العمل ومن كانوا من كتلة الليكود. مذبحة دير ياسين وأمثالها قبل قيام ذلك الكيان معروفة مشهورة. ومعروف, أيضاً, ما ارتكبه جنرالات الجيش الصهيوني بحق فلول الجيش المصري, عام 1967م, من جريمة جعل الدبابات تسير فوق أجسادهم وهم مكبَّلون بالأغلال, وما ارتكبته عصابات الشرطة الصهيونية في عهد رابين من تكسيرٍ لعظام شباب الانتفاضة العزل, وما ارتكبه بيريز في قانا اللبنانية وفي محاولة اغتيال أحد زعماء حماس في الأردن, جامعاً بين العزم على ارتكاب جريمة اغتيال جبانة, وامتهان لكرامة بلاد كان ذلك الزعيم يعيش فيها. وعلى هذا الأساس فارتكاب الجرائم عقيدة أخلص كل زعماء الصهاينة الإيمان بها, وتمسّكوا كلَّ التمسُّك بتنفيذ مبادئها. ولا يقرِّر حجم تلك الجرائم إلا نظرة كل واحدٍ منهم إلى الظروف المحيطة به عند عزمه على ارتكاب جريمته.
وبقيت المواقف من جريمة اغتيال الشيخ أحمد ياسين, وهي التي قصد بها عنوان هذه المقالة في الدرجة الأولى. والمهم من هذه المواقف موقف العالم العربي, قيادات وشعوباً. أما التنديد بالجريمة فأحد الثوابت التي لم يفرِّط بها هؤلاء وأولئك منذ أكثر من نصف قرن. وأما ترجمة هذا التنديد إلى عمل مفيد فأمر بعيد المنال على من استمرأت إرادتهم سراديب الاعتقال. فكلما ارتكبت جريمة في حق الأمة زاد قادتها خضوعاً وإذعاناً. فمع كل ما يرتكب زبانية المحتلين الصهاينة من جرائم ضد الشعب الفلسطيني لم تزل بعض القيادات مبقية على علاقاتها السياسية والاقتصادية معهم, ولم تزل تقدّم ابتهالاتها للدولة التي تشجعهم على ارتكاب تلك الجرائم! خوفاً أو طمعاً , ومودّةً أو هلعاً. ومن أبدى منهم تنديده بجريمة اغتيال الشيخ أحمد ياسين فهو إنما أبداها خوفاً من غضب أغلبية شعبه عليه؛ عالماً بأن من تملي عليه إرادتها تدرك أن كلامه لا يعدو أن يكون كلاماً يطير به الهواء.
أما الشعوب العربية فخيَّم على غالبيتها حزن شديد مبعثه وقوع جريمة الاغتيال البشعة من جهة, وإدراكها لفقدان قادتها الإرادة لاتخاذ خطوات عملية مؤثّرة للرد على ارتكابها من جهة أخرى. لكن هل يكفي الحزن؟
في البلدان التي لم تمرّ بتجارب العمل السياسي لا يتوقَّع أن يحدث غير الحزن والدعاء لفاطر الأرض والسماء. لكن المشكلة تكمن في بلدان مرِّت بتجارب سياسية ونقابية. ذلك انه لم يحدث فيها ما يتوقَّع من نقابات بالذات من مواقف تملي على قيادات بلدانها اتخاذ مواقف غير الخضوع والإذعان لإملاءات حاملة لواء الغطرسة والطغيان في كل مكان. ومن هنا فإن اليأس من قيام القيادات بما ألقي على كواهلها من مسؤوليات تجاه قضية الجميع العادلة ممتدة سدوله إلى جماهير الشعوب ومنظماتها. وأصبح الدعاء لاتخاذ مواقف يجدر اتخاذ الأمة لها لا يلقى حقيقة إلا آذاناً صما. وإذا كان هذا هو موقف العالم العربي, قادة وشعوباً, فإن الحديث عن مواقف غيره لا داعي له. ذلك أن مواقف الآخرين من قضايانا لا يمكن أن يؤثّر فيها إلا موقفنا. ومن لا يحترم نفسه فلن يحترمه الآخرون.
|