حضارتنا العربية العريقة، وعقيدتنا الإسلامية الأصيلة لا تنبذان الإرهاب وتمقتانه فحسب، وإنما أيضاً تحاربانه وتوغلان في عمق العمل الجاد لنشر الحرية والسلام والإعمار، وهما معمورتان بتقاليد عظيمة ينحني لها الإنسان تقديساً وإجلالاً، فنحن لا نطفئ الشموع كما يفعل الآخرون، بل نوقدها ونسهر عليها ونحميها ونبذل الغالي والنفيس لتبقى برّاقة وهّاجة؛ تضيء بنورها درب السعادة والأمن والأمان للإنسانية في كل مكان، دون النظر إلى معتقد أو جنس أو لون أو لسان، وغايتنا في كل ذلك لا تنحدر إلى كسب مصالح دنيوية، بل ترتقي سامية نزيهة تتوق مبتهلة إلى رضوان الله سبحانه وتعالى.
انطلاقاً من هذا المفهوم، وامتداداً لثقافة خاصة جداً في البذل والعطاء لرجل سجل التاريخ اسمه ورسْمه وعمله بحروف من نور، هو الفيصل بن عبدالعزيز - طيب الله ثراه -، أنشأ الأبناء الثمانية؛ أبناء الفيصل العظيم، في عام 1396هـ ؛ 1976م منارة خير نادرة ورائدة؛ عالية الهمة، وصادقة الوفاء، وقاهرة التحدي، يحتضنها أولو الأمر؛ ربان السفينة وقائدو المسيرة؛ بدأ رعايتها جلالة الملك خالد بن عبدالعزيز - رحمه الله -، ثم خلفه في رعايتها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - حفظه الله -، يلتف من حوله إخوانه الأفذاذ وفي مقدمتهم صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز؛ ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء رئيس الحرس الوطني، وصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز؛ النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران والمفتش العام، إنها مؤسسة الملك فيصل الخيرية التي انطلقت منذ يومها الأول في مشوار هادف ومسؤول - وإن شئتم مشوار الألف إنجاز -، وخلال ما يقارب العام خَطَتْ خطوتها الأولى فأنجزت إنجازاً أبهر العالم بأسره وكان مستوى الإبهار أعظم وأشد لدى العلماء والأدباء والمفكرين الذين ما فتئوا يعملون وينجزون كلٌّ في مجاله، وجميعهم ينظر إلى هذا الإنجاز بعين التمني والترقب لنيل شرف هذا المستوى من التقدير والتكريم، ذلكم الإنجاز هو جائزة الملك فيصل العالمية.
وبالأمس القريب (الأحد 30 محرم 1425هـ) شهد مركز الفيصلية المُبهر (وهو أيضاً من إنجازات الأبناء الثمانية) الاحتفال السادس والعشرين لجائزة الملك فيصل العالمية لعام 1424هـ - 2004م، ونيابة عن خادم الحرمين الشريفين، تقدم سلطان؛ (سلطان الخير والمحبة والسلام)، بابتسامته الوضّاءة المعهودة ليشرّف الحفل والمحتفلين، وبيد خيّرة وبقلب كبير يتولى تكريم علماء استحقوا بإنجازاتهم هذا التكريم، وأمام أعين ذلك الحشد الكبير من الحاضرين وعلى مشهد العالم أجمع (في زمن العولمة) جدد (سلطان) ضياء خمس شمعات أنيقات باسقات شامخات.
الشمعة الأولى تتألق بنفحات الإيمان وتضيء بنورها حياة إنسان كرّس جهده ووقته لخدمة الإسلام، إنه ابن السودان العريق المشير عبدالرحمن محمد سوار الذهب؛ وقد جاء في كلمة الأمين العام لجائزة الملك فيصل العالمية أنه استحقها تقديراً لجهوده العظيمة من خلال رئاسته لمجلس أمناء منظمة الدعوة الإسلامية في السودان، التي شيَّدت كثيراً من المدارس والمساجد والمستشفيات والمستوصفات ومراكز الطفولة وملاجىء الأيتام، كما حفرت كثيراً من الآبار ومحطات المياه في إفريقيا، إضافة إلى مساهمته الفعالة في الدعوة، محلياً وإسلامياً وعالمياً، وإلى تحلّيه بالصدق والوفاء بالوعد.
والشمعة الثانية يمتد نورها من السعودية إلى الهند؛ حيث يكرَّم الشيخ السعودي الجليل الدكتور يعقوب بن عبدالوهاب الباحسين، والشيخ الهندي الجليل الدكتور علي أحمد غلام ندوي، وذلك تقديراً لإنجازاتهما العظيمة؛ إذ استخرج الدكتور الباحسين القواعد الفقهية في المعاملات المالية من المصادر الأصيلة وربطها بالحاضر المعاصر بصورة تفصيلية مبتكرة.
بينما كتب الدكتور ندوي في القواعد الفقهية كتابات تتصف بالتأصيل والتجديد.
والشمعة الثالثة تفرش بنورها أرض الحضارة والتاريخ احتفاءً بالأديب المصري الأستاذ الدكتور حسين محمد نصار، وذلك تقديراً لإسهامه العلمي الرائد في مجال الدراسات المعجمية، وما تميزت به كتاباته من غزارة العلم وسعة الاطلاع والنظرة الشمولية لتطوير التدوين اللغوي بعامة والمعجم العربي بخاصة.
والشمعة الرابعة يعكس ضياؤها الموضوعية والحياد والمصداقية في معايير منح جائزة الملك فيصل العالمية، فهي تُمنح (فقط) لمن يستحقها، وقد استحقها هذا العام العالم السويسري الدكتور أولرخ سغفارت (Ulrich Sigwart)، وذلك لإسهاماته العظيمة في تطوير هذا الفرع الطبي وابتداعه طريقة فريدة آمنة تتمثل في استخدام الدعامة المعدنية المثقبة لتوسعة الشرايين التاجية، وابتكاره طريقة أخرى تتمثل في إدخال مواد تزيل تضخم عضلة الحاجز القلبي.
وقد ساهمت أعماله وابتكاراته في علاج مئات الألوف من المرضى في العالم دون جراحة.
والشمعة الخامسة تؤازر سابقتها في الموضوعية والحياد والمصداقية، إذ استحق ضياءها العالم البريطاني الدكتور سمير زكي (Semir Zeki)، وذلك تقديراً لدوره المتميز في تطوير علم (بيولوجيا الرؤية) من خلال دراساته الرائدة في كشف النظام الوظيفي في جزء الرؤية من دماغ الإنسان وبيان أن المعلومات الواردة من المنظر المرئي يتم إدراكها عبر مناطق صغرى متخصصة في استيعاب مكونات المنظر المختلفة - كاللون والحركة المرئية - كلاً على حدة، ثم ربطها في مراكز أعلى لتكوين المنظر.تلك كانت شموع الفيصل التي أوقد شعلتها سلطان؛ شموع خير ونور وأمان، شموع رقي وتقدّم وبُنيان، فهنيئاً لمن فاز بها اليوم، وهنيئاً (مُقدَّماً) لمن سيفوز بها غداً وبعد غد، فالشموع كثيرة، وتكريم العلماء والاحتفاء بإنجازاتهم سيتواصل بإذن الله أولاً، ثم بهمة الأبناء الثمانية وعزيمتهم وأصالة معتقدهم؛ وقد قالها خالد الفيصل: اللقاء يتجدد.. والعزم يتأكد.. والحلم يتورّد.
وأختم بشمعة أخرى حملتها الإعلامية جومانا الشامي - في المؤتمر الصحفي الذي جاء في ختام حفل الجائزة - وقدّمتها إلى سلطان الذي بثبات وثقة أوقد شعلتها لتضيء قلوبنا جميعاً، وتبعث في نفوسنا الراحة والطمأنينة، وتُصدِر للقاصي والداني شعاعاً ينبض بالعزة والأصالة والشموخ؛ الشمعة عبارة عن تساؤلٍ قالت فيه الإعلامية: نخشى في يوم من الأيام أن تفسَّر جائزة الملك فيصل العالمية في مجال خدمة الإسلام أنها داعمة للإرهاب! ما تعليق سموكم على ذلك؟ فأجاب سلطان بخير الكلام؛ (ما قلّ ودلّ): (إذا كان الإسلام وخدمته، واللغة العربية وخدمتها، والطب وخدمته، لصالح الإنسان إرهاباً!! فلنكن إرهابيين بهذا الأسلوب).
|