اطلعت على مقال الكاتب - المتمكن - محمد بن ناصر الأسمري في الجزيرة عدد (11498) في 1- 2-1425هـ بعنوان (تاريخنا الوطني ودارة الملك عبدالعزيز بين الدور والاستدارة والمدار) وقد ناقش الكاتب بصراحة - كعادته - قضية المحفوظات الوطنية.. ومع انني أشاطره الرأي فيما طرح عن الوثائق.. اللهم إلا نعته الدارة بقوله: (.... إخفاء الدارة لكل ما وصل إليها.. اتباع أسلوب الإغراء المادي للحصول على الوثائق).
وللأمانة وإثبات الحقيقة، فإن الدارة لها قصب السبق في جمع وثائق التاريخ الوطني وأنفقت أموالاً طائلة في سبيل الحصول على الوثائق - داخل وخارج المملكة - ولا أظن أنها مسؤولة عن إحجام الجشعين ممن يملك وثائق وطنية.. الذين لم يدركوا أن من المصلحة حفظ وثائقهم في مكان آمن يضمن سلامتها - بإذن الله - من عوامل التلف ومن ثم بسطها للباحثين.
أما عن السرية فان كل دور المحفوظات في العالم يوجد لديها وثائق تخضع للإجراءات السرية لمصلحة تراها هذه الدور.. ولا ضير من حجب ما سوف يترتب على نشره ضرر. إلا أن سرية الوثائق ليست أبدية.. ففي العرف الدولي هناك فترات زمنية لحجب الوثائق تختلف باختلاف الدول ونوع الوثيقة إلا أنها لا تتجاوز (30-50) عاماً. ومعظم وثائقنا الوطنية - خاصة مرحلة بناء الدولة وتكوين مؤسساتها مضى عليها قرن كامل.
وحسب علمي وقناعتي، فإن دارة الملك عبدالعزيز لا تحجب الوثائق عن الباحثين.. بل تصورها لهم وترسلها لمن يطلبها من خارج الرياض.. وقد تبحث عن الوثائق التي لم تكن في حوزتها خدمة للباحثين، وللأمانة والحقيقة، فإن الدارة قامت وأنجزت وتقوم حالياً بجهود كبيرة في جمع وتنظيم الوثائق الوطنية، ولديها مخزون كبير منها، ويكفيها فخراً أنها أصدرت مئات الكتب الموثقة التي يعز على عدة جهات - مجتمعة - الإتيان ببعضها.
وما هذا إلا توفيق من الله ثم تولي قيادتها رجل فذ هو صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز ذلك الرجل المبارك والموفق في كل إنجاز وطني يتجاوز نفعه حدود مسؤوليته الإدارية، ثم إشراف مديرين سابقين لهم قصب السبق في توثيق التراث وإعطاء هذه المؤسسة شخصيتها المتميزة ثم تواصل العطاء في عهد أمينها الحالي ذلك الرجل المميز بما تعني هذه الكلمة.. ويعاونه موظفون مخلصون، فلهم الشكر جميعاً على هذا العطاء.
أما عن التوافق مع ما طرح الأستاذ محمد الأسمري، فإنني أضيف إليه تجربتي الشخصية خلال رحلة البحث عن الوثائق فترة إعداد رسالة الدكتوراه، ومع أنني مُكِّنت من الاطلاع على جل المحفوظات في وزارتي الداخلية والمالية وبعض الجهات الأخرى، فإنني أبين حال هذه الوثائق خلال فترة البحث فيها (1410- 1411هـ) بصورة عامة.
- وثائق وزارة الداخلية تضم أصول قرارات مجالس كل من: الشورى، الوكلاء، النيابة العامة في منطقة الحجاز (1343- 1374هـ). وهذه الفترة التي كانت محل اهتمامي. أما بعد فترة البحث.. فقد لا يكون حال الوثائق فيها أصلح مما سبق. إلا أن وزارة الداخلية مكنت المسؤولين في مكتبة معهد الإدارة العامة من تصوير جل وثائقها، وحسب علمي فإن الأصول ما زالت لدى الوزارة وهي غير منظمة بصورة تمكن الباحث من الاستفادة منها.
- محفوظات وزارة المالية وهي الأهم والأكثر لأنها أحضرت من كافة مناطق المملكة بعد أن تم نقل وزارة المالية من الحجاز إلى الرياض.. ولديها توثيق دقيق وترتيب وعناية بحكم أهمية القضايا المالية والحقوق المترتبة عليها.وفي فترة لاحقة - وللأسف - جمعت هذه الوثائق في حقائب حديد وأكياس تالفة وركمت - دون ترتيب - في عنابر كبيرة غير مكيفة في منطقة (...) ومن المستحيل على أي باحث أن يصل إلى بغيته إلا بمحض الصدفة. ومن يحالفه الحظ ويسمح له بدخول هذه العنابر فعليه أن يبحث عفوياً في أكداس الملفات التي يعلو بعضها البعض الآخر حتى السقف لأن الرافعة الشوكية مزقت أوعية الحفظ أثناء الرفع وقد اختلطت الملفات وبعضها تمزق.
ولا أجد أي مبرر لأن تحتفظ الوزارة بهذه الوثائق وتركها عرضة للتلف - إن لم تكن قد تلفت - بدلاً من تسليمها لدور الوثائق المختصة لترتيبها وفهرستها وترميم التالف منها ومن ثم تهيئتها للباحثين.ولم تكن المحفوظات في الجهات الأخرى التي اطلعت عليها بأوفر حظاً من محفوظات المالية، مؤكداً أنني لم أقصد النيل من هذه الجهات بقدر ما هو التنبيه والتذكير بما آل إليه أمر هذه الثروة الوطنية.
وحيث إن الوثائق الوطنية يشرف عليها - حالياً - أكثر من جهة بالإضافة إلى الوزارات والمصالح الحكومية والمؤسسات الأهلية.. فإن من المناسب توحيد جهة الإشراف على الوثائق مع وضع آلية لتنسيق الجهود بين هذه الجهات وجدولة إيداع وثائقها - حسب النظام الوثائقي - ولتحقيق الفائدة من توحيد الإشراف على الوثائق - كما يطالب الأخ محمد الأسمري - فإنني أضيف ما يلي:
- تفعيل أنظمة: نظام الوثائق والمحفوظات، ونظام المركز الوطني للوثائق والمحفوظات الصادرين عام 1409هـ ونظام الإيداع الصادر عام 1412هـ.
- ربط مراكز الوثائق - القائمة - بمركز واحد عن طريق إيجاد نهايات طرفية للربط بينها.. فالجامعات ومراكز البحث العلمي مدعوة للمساهمة - جميعاً - في تبني خطة وطنية للحفاظ على الوثائق.. ولعل وزارة الثقافة والإعلام تفعّل المؤسسات التي ألحقت بها نقلاً من وزارة التربية والتعليم والرئاسة العامة لرعاية الشباب.
- الاستفادة من التقنية الحديثة في ضبط وحفظ الوثائق وتنظيمها بما يمكن الاستفادة منها تراثاً وتاريخاً وثروة.
- توثيق المحفوظات وحفظ أصولها في مكان آمن ضد الحريق والسرقة والتلف.
- الاهتمام بالتاريخ الشفوي الذي يمثل أهم مصادر التاريخ وتسجيله مع تفريغ مادته على الورق لتكون في متناول الباحثين.
- التنسيق مع الجامعات ومؤسسات التعليم لتشجيع طلبة الدراسات العليا فيها للاهتمام بالوثائق الوطنية.. وهذا يحفز الجهود ويساعد في لمّ هذا الكم الهائل والمهمل من الوثائق.
- خلال الفترة الحالية يجب أن تشترك دور - وعاء - الوثائق في قاعدة معلومات تبصر الباحثين من معرفة مضامن هذه الوثائق.
- استقطاب خريجي المكتبات والتاريخ والإدارة التقنية والإعلام للعمل في الإدارات المعنية بشؤون الوثائق.. بدلاً من إسناد المحفوظات في جل المصالح الحكومية إلى أقدم موظف - لكبر سنه أو لمؤثرات أخرى - وهذا يعكس أهمية المحفوظات لدى المسؤولين في تلك الإدارات التي تهمل مكان حفظها - مستودعات قديمة أو صناديق خارج المقر الرئيسي أو القبو - فهل هذا مكان حفظ هذه الثروة الوطنية؟!
- تخصيص موارد مالية - من الدولة أو قيمة رسم خدمات تؤخذ من الباحثين - للصرف على المحفوظات تنظيماً وشراء أصول - ممن يرفض البيع أو الإهداء - ومصروفات إدارية تخدم الباحثين.. مع العلم أن دور الوثائق في العالم تفرض رسوماً على الباحثين فلا ضير من انتهاج هذا الأسلوب خدمة للجميع.
- التوعية الإعلامية بأهمية حفظ الوثائق وإيداعها في مكان آمن وإقناع من يتحفظ على وثائقه أن نشرها يخدمه بالدرجة الأولى.
إن أهمية الوثائق تحتم على الجميع - مسؤولين ومواطنين - تنميتها واستثمارها وهي في النهاية ملك الأجيال القادمة.. ولا عذر لمن يفرط فيها.. لأن إهمالها أو التراخي في جمعها وحفظها خسارة وطنية.. ذلك ان أمة بلا وثائق فإن تاريخها عرضة للتحريف أو يكتب ناقصاً.. فهل نعي - جميعنا - أهميتها؟
آمل ذلك، ولعل القراء يساهمون في تأييد الفكرة خاصة ممن مر منهم بتجربة.
د. إبراهيم بن عويض العتيبي/ الرياض |