* الجزيرة - خاص:
لحظات الغضب من أسوأ اللحظات التي يمر بها الإنسان، ليس لأن الغضب انزعاج وحنق، بل لأنه يعني خروجا عن الأطوار وما يتبعه من سلوكيات طائشة، وأعمال لا تحمد عقباها ولا يعرف مداها، ويندر أن تمر لحظة غضب بدون أن يتبعها سلوك خاطئ، فيندم صاحبه عليه إذا كان طيب القلب، ويزداد خطأ إذا كان سيئ العقوبة.
وتتجاوز الآثار الضارة للغضب نطاق الفرد إلى أسرته ومجتمعه، ولهذا نبذه الإسلام وعارضه بكل قوة، ووضع الحلول الموضوعية له.
جاء الإسلام ليخلص البشرية من أدران الجاهلية وأمراضها، ويقوم السلوك الإنساني ضد أي اعوجاج أو انحراف عن الفطرة السوية، ويقدم العلاج الشافي لأمراض الإنسان في كل العصور القديم منها والحديث، مما حملته العصور الحديثة بتقنياتها ومستجداتها، وهو علاج تقبله كل نفس سوية، ولا ترفضه إلا نفوس معاندة مكابرة، جاهلة، أضلها هوى، أو متعة زائلة.
وقد استوعبت الشريعة الغراء كل ما قد يقترفه الإنسان من ذنوب، أو محرمات في كل عصر، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً، أو حتى ما يعتمل في الصدور من مشاعر وانفعالات، وأبانت أسباب تحريمها جُملة وتفصيلاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، إلا ان الكثيرين مازالوا يسقطون في دائرة المحرمات هذه، إما جهلاً، أو استكباراً، أو استصغاراً لها، أو بحثاً عن منفعة دنيوية رخيصة واستجابة لشهوة لحظية، بل إن بعض هؤلاء يحاولون الالتفاف على حكم الإسلام الرافض لهذه السلوكيات، بدعاوى وأقاويل هشة لا تصمد أمام وضوح وإعجاز الإسلام في رفضه لهذه الموبقات التي تضر ليس مرتكبها فحسب، بل تهدد المجتمع بأسره.
و«الجزيرة».. تفتح ملف هذه السلوكيات المرفوضة، تذكرةً وعبرةً ووقايةً للمجتمع من أخطار هذه السلوكيات، وتحذيراً لمن يرتكبها من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، من خلال رؤى وآراء يقدمها أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة والدعاة وأهل الرأي والفكر من المختصين كل في مجاله..
آملين ان تكون بداية للإقلاع عن مثل هذه السلوكيات التي حرمها الله، قبل ان تصل بصاحبها إلى الندم وسوء الخاتمة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وللغضب اسبابه، وله تأثيراته الضارة بالتأكيد، وبنفس الوقت المعالجة موجودة. يتحدث بداية الشيخ محمد بن عبدالرحمن الهويمل قاضي محكمة الرين عن اسباب الغضب فيقول: إن الغضب طبيعي في كل إنسان، بل وفي كل حيوان، وهو ضروري ولازم في بعض الأحيان، وبغيض ومرذول في أكثر الاحايين، فمن يتعرض للاعتداء على نفسه، أو ماله، أو عرضه، أو ولده، فإنه يغضب ويقوم بمحاولاته المستطاعة ليدفع سبب الغضب، وهذا غضب محمود، وقد يكون واجباً، وعلى المسلم أن يتصرف حين يغضب في حدود ما يسمح به دينه، أو في حدود ما يعتبر كمالاً في دينه.
كما أن من اسبابه أيضا العجب والمزاح والكبر والمماراة والمضادة والغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه، وهذه أخلاق رديئة مذمومة شرعاً.
ويصف الهويمل علاجاً كما يرى للغضب، فيشير إلى أنه إذا هاج الغضب فيعالج بأمور عدة، أحدها: أن يتفكر الإنسان في الأخبار الواردة في فضل كظم الغيظ والعفو والحلم والاحتمال، كما جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن رجلا استأذن على عمر رضي الله عنه، فأذن له، فقال له: يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل- أي الكثير من العطية- ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر رضي الله عنه حتى همّ أن يوقع به، فقال الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين، إن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم :{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر رضي الله عنه حين تلاها عليه، وكان وقّافاً عند كتاب الله عز وجل، والثاني: أن يخوّف نفسه عقاب الله تعالى، وهو أن يقول: قدرة الله عليّ أعظم من قدرتي على هذا الإنسان، فلو أمضيت فيه غضبي لم آمن أن يمضي الله عز وجل غضبه عليّ يوم القيامة، فأنا أحوج ما أكون إلى العفو، والثالث: أن يحذر نفسه عاقبة العداوة والانتقام وتشمير العدو في عدم أعراضه والشماتة بمصائبه، فإن الإنسان لا يخلو من المصائب فيخوف نفسه ذلك في الدنيا إن لم يخف من الآخرة، والرابع: أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب، وأنه يشبه حينئذ الكلب الضاري والسبع العادي، وأنه يكون مجانباً لأخلاق الأنبياء والعلماء في عاداتهم لتمييل نفسه إلى الاقتداء بهم، أما الخامس: أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى الانتقام، قبل أن يكون سبب غضبه أن يقول له الشيطان: إن هذا يُحمل منك على العجز والذلة والمهانة وصغر النفس، وتصير حقيراً في أعين الناس، فليعاتب نفسه وليقل لها: تأنفين من الاحتمال الآن ولا تأنفين من خزي يوم القيامة، وعليه أن يكظم غيظه فذلك يعظمه الله تعالى، فما له وللناس، قال صلى الله عليه وسلم: ( من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء)، والسادس: أن يعلم أن غضبه إنما كان من شيء جرى على وفق مراد الله تعالى، لا على وفق مراده، فكيف يقدم مراده على مراد الله تعالى؟ هذا ما يتعلق بالقلب، وأما العمل فينبغي له السكون والتعوذ وتغيير الحال، وإن كان قائماً جلس، وإن كان جالساً اضطجع، وقد أمرنا بالوضوء عند الغضب، فهذه الأمور وردت في الأحاديث.
أثره على الأسر والعائلات
ويعرف الشيخ محمد آل اسماعيل إمام وخطيب جامع الوسيطي بالأحساء الغضب بأنه: مفتاح الشرور والآثام، وبريد التفرق والانقسام، به يستدل على ضعف العقل، وخطل الرأي، وسوء التدبر، ووهن الدين، وكم يجر الغضب من المآسي والفواجع على الأسر والعائلات، وكم يمزق من الروابط الوثيقة والعلاقات العريقة، فبسببه يفارق الأخ أخاه، والولد أباه، وتحرم الزوجة من أولادها، وحنان بعلها، وليست قوة الرجل في البطش والقهر، إنما القوة الحقيقية في ملك زمام النفس عند هيجان الغضب، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
ويرى آل اسماعيل أن القوي من الناس من يستعمل عقله، ويحزم رأيه، ويضبط نفسه عند الغضب، فلا يجعل سبيلاً عليه للشيطان، كما أن صفة الحلم من الصفات التي يمدح الله بها المرسلين، لما لها من أثر واضح في تمكين دعوته، فقد وصف الله عز وجل إبراهيم عليه السلام بقوله جل وعلا :{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ}، وقال تعالى في إسماعيل:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}.
كما أثنى الله جل وعلا على نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالصفات الكاملة والأخلاق الحميدة، حيث يقول تبارك وتعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في حسن الخلق والحلم، والصفح والعفو، فلقد لقي الكثير من أذى قومه، فكان صابراً على أذاهم، ممتثلاً أوامر ربه، يقول جلا وعلا له: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، وكان صلى الله عليه وسلم يطلب لقومه الهداية ويعفو عنهم، ولما أكثروا من إيذائه لم يدع عليهم بالانتقام، بل قال: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).
وينصح الشيخ آل إسماعيل الإنسان بأنه في هذه الحياة، سواء كان موظفا في وظيفته أو صانعاً في مصنعه أو تاجراً في متجره، يخالط غيره من الناس، ويتعامل مع أبناء جنسه، وقد يستغضب أو يسمع ما يثير أعصابه، فعليه أن يتجمل بالصبر، وأن يتخلق بالإحسان، ويتزين بمكارم الأخلاق، ويضع بدل الإساءة إحساناً، ومكان الغضب عفواً وحلماً، وأن يتذكر دائماً قول الله جل وعلا في محكم كتابه: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بما يشرف الله به البنيان، ويرفع الدرجات؟) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (تحلم على من جهل عليك، وتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك)، فتلك شمائل كريمة، وخصال حميدة، تأخذ بيد صاحبها إلى الفردوس الأعلى، قال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
آثار التصرف عن عجل
ويوضح د. زيد بن عبدالكريم الزيد الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية رؤيته حول الغضب فيقول: إن الإسلام جاء ليكفكف النزوات، ويمنع العجلة في التصرفات، ويقطع دابر الندم، وليقيم أركان المجتمع على الفضل وجودة الخلق، وحسن العواقب، ويهيئ سبل الاستقرار، ولن تتحقق هذه الغاية إلا عندما يهيمن العلم النافع، والعقل الراشد، والتدين الصحيح على غريزة الجهل والغضب، وإن من أشد ما يدفع الشخص إلى التصرفات الطائشة، ويجره إلى الندم السريع، ويوقعه في الحرج والضيق، هو التصرف عن عجلة وغضب.. مشيراً إلى أشخاص هدمت أسرتهم بسبب لحظة غضب وتعجل، وشتت شملهم بطلاق أم أولاده.
وكم من شخص بسبب تلك اللحظة الغضبية التي فقد فيها السيطرة على أعصابه هدم كل عناصر الود والصداقة مع زميل قديم وصديق وفي، وكم من شخص بسبب الغضب لعن والديه وتلفظ عليهما باشنع عبارة تخرج من لسانه، وكم من شخص بسبب لحظة الغضب تنكر لمن اسدى إليه معروفا وصنع له جميلاً، كم من شخص جر على نفسه، بل وعلى مجتمعه، بسبب الغضب والعجلة مآسي وأحزانا.. وفي مثل هذه المواقف يجب أن نتذكر أدب الإسلام الذي ضبط العواطف، وحكم العقل، ودعا إلى الأناة والتبصر.
ويقول د. الزيد: ان الإسلام يدعو للرفق، وعدم العجلة في التصرف واتخاذ القرار، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه) رواه مسلم، فالرفق محبوب من الله، والرفق يحقق الله به الغايات ما لا يحققها بالعنف، وقد بين الإسلام أن المسلم بريء من السب واللعن، والشتم والطعن، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليس المسلم بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
والأمة الإسلامية بحاجة إلى الفرد الذي يستطيع أن يضبط مشاعره، ويتحكم في تصرفاته، ويتعقل في أقواله، ويتبصر في خطواته، ويحجم عن العجلة التي تجر عليه الدواهي.
المسلم مع غيره، كيف؟
وإذا كان هذا الحكم مع المسلم، فكيف يكون مع الوالدين أو الزوجة أو مع الأقارب أو الجيران، أو مع المراجع لموظف، أو كل من له حق خاص؟ فإذا به يبادر إلى السباب والشتائم، وفقد السيطرة على النفس لأمر من الأمور لم يعجبه، وكثير من مشكلات المجتمع، وقضايا المحاكم نتيجة الطيش والغضب، والذي امتد ليصبح سباباً أو ضرباً أو طلاقا او انتقاما، وكلها نتائجها معروفة، والرجوع عنها قد فات أوانه، وقد مدح الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً جاءه، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة) رواه مسلم.
وهاتان الخصلتان يحبهما الله ورسوله، ويحبهما الناس، ويحمد أصحابها عواقبها، فلا تكاد تجد حليماً متأنياً نادماً، وحدث ولا حرج عن كثرة النادمين من أصحاب الغضب والعجلة؛ ولهذا ينصح بعودة الغاضب إلى رشده، والتأني في التصرف، وهنا تظهر مواطن الضعف والقوة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) رواه البخاري ومسلم.
ويقول د. الزيد: وعند انتصارك على نفسك وامتلاكك لزمام عباراتك فأنت موعود بالخير على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث قال: (من كتم غيظاً، وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق، حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء) رواه أحمد وغيره بسند صحيح.
وكثرة الفتن وتتابع المصائب، لا تجر العاقل إلى التهور، ولا تهون خطر العجلة، ولا تنسي الحلم والأناة، وربما العواقب خير من المنظور، ولذا مهما حل بالشخص من المصائب أو الفتن فلا بد من التأني، ولا بد من إبعاد اي أثر للغضب والتهور، ويجب على المسلم عندما يرى ما يغضبه أن يلجأ إلى الله أولا وقبل كل شيء، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فإن تلك اللحظة للشيطان، له فيها نصيب وصولة وجولة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد استبّ عنده رجلان، فاحمر وجه احدهما غضبا، فقال صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لذهب عنه ما يجد) رواه البخاري ومسلم، وفي وصية أخرى من وصايا المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: (إذا غضب أحدكم فليسكت) رواه أحمد، وذلك ليقطع دابر المشاتمة والمساببة واستمرار المزيد من البذاءة.
وصية نبوية في الغضب
أما الشيخ عبدالله بن صالح القصير، الداعية المعروف، فيتوقف عند وصية اوصاها الرسول صلى الله عليه وسلم لرجل فقال له: (لا تغضب) وردد اللفظة مراراً، ويقول: هذه وصية نبوية جامعة لخيري الدنيا والآخرة، أوصى بها صلى الله عليه وسلم من طلب نصيحته ورغب وصيته، فأوصاه النبي صلى الله عليه وسلم وصية كلية اشتملت على امرين:
أحدهما: أن يمنع المرء نفسه من الغضب جهده، وذلك بمجانبة اسبابه والتمرن على حسن الخلق مع سائر الخلق، والصبر طلبا للحق، وتوطين النفس على تحمل ما قد ينالها من أذى الخلق القولي والفعلي، بحيث يتلقى المرء ما يرد عليه من ذلك بواسع الحلم وقوة الصبر، إيماناً بجزيل المثوبة، وطمعاً في حسن العاقبة، ودفعاً بالتي هي أحسن:{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}، فإن غلبه الغضب فتمكن منه، ولم يستطع دفعه، فعليه بالأمر الثاني: وهو ألا ينفذ المرء مقتضى غضبه، بل يمنع نفسه من الأقوال والأفعال التي يقتضيها الغضب، فإنه إن ظفر بذلك فكأنه لم يغضب، وبذلك يكون العبد كامل القوة العقلية والقوة القلبية، فيكون شجاعاً شديداً على نحو يحبه الله ورسوله، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشديد بالصرعة- يعني الذي يصرع الرجال- إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبدالقيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة).
وكمال قوة العبد في امتناعه أن تثير فيه قوة الغضب وقوة الشهوة الآثار السيئة الضارة في العاجل والآجل، بل يصرف هاتين القوتين في تناول ما ينفعه في الدنيا والآخرة ودفع ما يضره فيهما، فخير الناس من كانت شهوته وهواه في طاعة الله على نحو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ورسوله ومصطفاه، وكان غضبه في نصرة الحق ودحر الباطل، على نحو ما كان عليه الصالحون الاوائل، وشر الناس من كان صريع شهوته وغضبه، فكان من أولياء الشيطان وحزبه.
ويحدد الشيخ القصير الغضب بنوعيه، فهو غضب محمود مشروع، وهو ما وقع في مكانه، وهو ما كان غضبا للدِّين، وغَيرة عند انتهاك محارم الله، وكان التصرف بعده على وفق ما يقتضيه العقل الرجيح، وجاء به الدين الصحيح، فينبعث حين تجب الحمية، وينطفئ حين يحسن الحلم، واذا انبعث كان على حد الاعتدال، ووقع التصرف المبني عليه على وفق الشرع في سائر الأحوال، فيتحقق به جلب المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتعطيلها أو تقليلها، وغضب مذموم، وهو ما كان وفق هوى الإنسان، وبتزيين من الشيطان، وهو ما كان باعثه الكبر، وثمرته العدوان على البشر، وذلك من افعال اهل الجاهلية، وأخلاق أمة اليهود الغضبية {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ}، والغضب المذموم مفتاح الشر وجالب الوزر، ينبت في القلوب الحقد والحسد والضغينة، ويفسد على صاحبه دنياه ودينه، ويورده الضلالة بعد الهدى، ويبدله من العافية البلاء، فكم نتج عنه من فاحش الكلام، وكم أوبق صاحبه في الآثام، وكم أحدث من جفوة بين متاحبين، وكم فرق بين زوجين، وكم نشأ عنه من الخصومات، وكم احدث من عداوات، وفرق من مجتمعات، وأشقى أهله في الحياة، وربما حرمهم فسيح الجنات بعد الممات.
الغضب في محله
في حين أن الغضب عندما يكون في محله صفة كريمة من صفات الأفعال الدالة على الكمال؛ ولذا فهو معدود من صفات الله الفعلية الكاملة، فإنه سبحانه يغضب حينما يحدث من عباده ما يقتضي غضبه، فيغضب على مَن نقض عهده، وعلى من بدل دينه، وعلى من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا من تجرأ على الحرمات، أو استخف بفرائض الطاعات، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم الله عليه، ومن أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن).
وكان صلى الله عليه وسلم يغار ويغضب لله، لا لنفسه، بل عندما يرى حرمات الله تنتهك، لكنه صلى الله عليه وسلم يفعل ما تتحقق به المصلحة الكاملة أو الراجحة؛ فيعلم الجاهل، ويزجر المتساهل، ويعاقب من يستحق العقوبة الشرعية من حدّ أو تعزير، وكان صلى الله عليه وسلم يتلون وجهه عند الغضب، فيحمرّ حتى يكون كالصرف - أي الصبغ الأحمر- وكان صلى الله عليه وسلم إذا غضب لا يقوم لغضبه أحد.
وينصح الشيخ القصير المؤمنين بأن يغضبوا لله عندما يرون تقصيراً في فريضة، أو جرأة على منكر، بشرط أن يتصرفوا بما يحقق المصلحة الكاملة أو الراجحة على وفق ما جاء به الشرع والحدود، والجهاد في سبيل الله، والبراءة من أعداء الله، إلا ثمرات مباركة لهذا الغضب المحمود، وهو من أعظم ما يدخر في الموازين، وتنال به الدرجات العالية من الجنة عند رب العالمين.
محذراً من الغضب في غير محله، بل والتصرف بعد الغضب بما يخالف الشرع، فإنه من الخصال المذمومة، ومن سمات أهل الجهل والحمق والخرق، وهو من أخطر الذنوب، ومن أسباب موت القلوب، وفوات المطلوب، وتشوه الصورة، ونقص الخلق، وموجبات الندم، والعيب من سائر عقلاء الأمم؛ لما ينتج عنه من المشكلات العائلية، والفتن الاجتماعية، والأمراض المستعصية المستديمة، والإصابة بالصرع، وموجبات فساد الطبع.
|