حمدا لله أن نال سيد المجاهدين والمرابطين احمد ياسين الشهادة في رباط الجهاد عن العرض والأرض المقدسة. وما نملكه، كأهل وعشيرة له، هو الدعاء بالرحمة والغفران والرضوان من الله جل وعلا. لقد استطاع هذا البطل وهو قعيد كرسي الإعاقة أن يؤسس (حماسا) منضبطا بشرعية النضال، في الجهاد ضد الاعتداء وفي نفس الوقت فقد كان هنالك معانٍ في التأسيس لسماح بالتعايش السلمي من منطلق أن فلسطين ارض الديانات السماوية وعليها مورست على مدى التاريخ مسارات من التعايش والألفة اكثر من مسارات الصراع الذي ما كان نبعه الا من خارج هذا المخلاف الشرق أوسطي.
لقد مارس الشيخ المجاهد احمد ياسين ومن معه من الميامين من رواد وقادة النضال ضد العدوان والإرهاب الصهيوني ومن رعاه وسانده من قوى الاستكبار الظالم سياسية المقاومة ضد العدوان، في الوقت الذي نحت القيادة السياسية الفلسطينية بعد عودتها للوقوف على ارض فلسطين منحى التفاوض ومسايسة الواقع والمناخ الدولي. ولكن مما يؤسف له أن السياسة والمسايسة قد أغفلت مواطن الدهاء والذكاء، وربما لعبت الحالة النفسية العربية دورا في الثقة المفرطة بالوعود والأماني، والثقة في الاحتكام إلى شرف الالتزام بالعهود والمواثيق وثقافة الضامن والضمان. هذه أمور في علم المفاوضات والاستراتيجيات تعتمد على مبدأ التفاوض المتكافئ والكسب والخسارة، لا على العواطف وقيم شرق أوسطية سداها الثقة بكلام الرجال وشرف الالتزام، وربما تقبيل الجباه والرؤوس والتربيت على الأكتاف وسلام الشجعان ؟؟
لقد قضى احمد ياسين شهيدا، وبقي رمز نضال حر شريف ضد العدوان والاعتداء. وسيظل موقد جذوة للنضال في النفوس العربية كلها وفي بلاد الإسلام والعالم الحر في أرجاء الكون الإنساني. هذا بالطبع ربما ما لم تدرك مضمونه ومحتواه الإدارة الأمريكية - الإسرائيلية في منظور سياسة الاجتماع الإنساني الواسع . إن توالي ثورة وغليان الأجيال سوف لا يحد منه خوف دنو الآجال. ووقائع التاريخ تشهد أن ضراوة ما مر من ظلم وحروب في هذا الإقليم كان الانتصار هو لحماية الديانات في أرضها في هذا الإقليم حتى لو ادعى الغزاة انهم مجاهدون في سبيل الله، نحن نقر بهول ووقع الصدمة على الولايات المتحدة الأمريكية من جراء العمل الإرهابي الذي تعرضت له في أيلول 2001، وندينه مثل كل الأسوياء، لكن فقد السياسة والتاريخ لا يقبل أن تكون اعظم قوة في الكون اليوم منجرفة للتخلي عن دور الزعامة والريادة لقيادة العالم الحر إلى السلام والحرية والعدالة والديموقراطية ؟؟ لكن هوس ردة الفعل كانت هي المعيار في الحرب على الإرهاب، دون النظر إلى انه في مساره هو منتج أمريكي رعاية وتمويلا وتدريبا لوجستيا وسياسيا وأيديولوجيا وبالذات ما كان في الجهاد الأفغاني، ونشوء الدكتاتورية في العراق وكل الأنظمة القمعية التي حظيت بالدعم والرعاية الأمريكية.
ولعل المنظور الفكري يتيح المجال للقول أن منبع كل هذا هو سيادة ثقافة القيم في السياسة الأمريكية. فقد بات الحرب على الإرهاب قيمة في الخطاب الفكري الأمريكي سياسيا وإعلاميا وعسكريا، ثم في النهاية اجتماعيا. أما الكيفية والتكييف القانوني والاقناعي فهو متجلٍّ في ترسيخ المفاهيم والتعريف للإرهاب والمقاومة. السياسة الأمريكية تقر وتدعم المقاومة للإرهاب، بل والحرب عليه، إذا كان من جانب إسرائيل، وتراه عملا شيطانيا ومحور شر ان جاء من المعتدى عليهم، سواء أكانوا في فلسطين أم العراق أم أفغانستان أم جزر الواق الواق ؟؟ وهذا منطق ليس له قبول ولا قناعة في لغة الاخبار والإقناع عن وجهي الحقيقة وتسويق المنتج. بل هو في منطق العقل والسياسة بعيد عن خلق قبول ومصداقية للولايات المتحدة الأمريكية في المجتمع الدولي ومنظماته والشعوب والحكومات، سواء في مناداتها بالديموقراطية والحرية والعدالة والمساواة ومبدأ الشراكة في المصالح المشتركة سواء في مجالات السياسة والاقتصاد، أو حتى في التوازن الإقليمي. والحق انه سيخلق هوة بعيدة الغور في زيادة حجم الكراهية، ليس فقط للسياسة الأمريكية، بل للشعب الأمريكي العظيم، الذي تتغنى أجياله صباح كل يوم في المدارس والاحتفالات بالنشيد الوطني الذي يمجد الحرية والشجاعة. صحيح ان الولايات المتحدة قوة إمبراطورية عظمى، لكنها ليست أول واحدة بهذه المواصفات في التاريخ الإنساني، وبالتالي فدورة التاريخ لن تقف موقفا يختلف عن ما كان في التاريخ من إمبراطوريات في القوة والجبروت، وعلى هذا فان منطق الأسوياء يشير إلى أن الإفادة من دروس التاريخ فيها عظات ومواعظ عن شبح السقوط والانهيار، فما من ظالم إلا سيبلى بالظلم.
أنني أشفق على أجيال الشعب الأمريكي العظيم من تلاشي قيم العدالة والحرية والديموقراطية التي سادت في مراحل نشوء وقيام واتحاد الولايات، والخشية بسبب ما ترسخ من قيم ذات نسق أحادي في مسار السياسة للإدارات التي تحكم بسلب منطق العدالة في منظار التعامل مع الأحداث بميزان الحق والإنصاف. ومن هذا المنطلق فلا اعلم ما هي المعايير التي حدت بالحكومة الأمريكية إلى الإعلان بمباركة قتل الحكومة الإسرائيلية الشيخ احمد ياسين، غفر الله له، ووصف الناطق الصحفي في البيت الأبيض منظمة حماس بانها منظمة إرهابية، وكذا الشيخ ياسين.، كيف يكون هذا وقد تم التفاوض مع حماس وقائدها، بل وقادتها، فأخرجته إسرائيل من سجونها واعترف المجتمع الدولي به زعيما سعى بكل الوسائل للسلم، رافعا غصن زيتون وبندقية تحمي الغصن من القتلة الذين جرفوا حتى الزيتون من الأرض.
بقدر الشفقة على أجيال الشعب الأمريكي العظيم من هذا المنظار الازدواجي في التظليل بمقاصد القيم والمثل العليا العظيمة التي قام عليها، بقدر ما تكون الشفقة أيضا على أجيال الإسرائيليين التي استوطنت ان تكون وقودا لحرب مفنية تدار ضدهم ليكونوا وسط بحر من الغليان والعنف، مثلما كانوا قبل واثناء الحربين الكونيتين حين ذبحوا وشردوا واضطهدوا في أوربا، وما هذا الامس ببعيد. إن الاسرائيليين أقلية في فلسطين، محاطون بأحزمة من العرب الذين ذاقوا مرارة الذل والتشريد، وهؤلاء سوف يتنامى فيهم الكراهية والعنف جيلا بعد جيل، ولهذا حصاد مروع تعرفه مدارات التاريخ وحراك الشعوب ضد المظالم والظالمين. يبدو أن قادة إسرائيل اليوم، ما زالوا يلعبون خارج سياق الواقع، فان كانت المراهنة على تقديم سياسة الترويع ثمنا للانسحاب من غزة، وذلك بقتل الزعامات في غزة من اجل إرهاب الشعب الفلسطيني في هذا الجزء من فلسطين فذلك وهْم وسياسة لا كياسة فيها، سواء أكانت مباركة من أمريكا أم غيرها، فالشعب في فلسطين قد بات النضال له سمة وخيار، وله في الوجدان العربي حضور في الذهن والفعال، ولن تعقم أمهات النضال عن الإنجاب وارضاع حليب الإقدام ومسح العار، إن كانت هذه سياسة فهي اقرب إلى قلة الفطنة والكياسة، فقد يكون الانسحاب الإسرائيلي على بساط من الدم وخريطة طريق طويل من العنف وعدم السلم والسلام في بقية الأنحاء حتى لو استظل بجدار الفصل العنصري. لن يكون في هذا كسر لمقاومة الشعب الفلسطيني، كما يتوهم الإرهابيون وممولوه وداعموه والمدربون عليه. ولن يوجد قبول بادعاء نشر الديموقراطية والإصلاحات. أما إن كان هناك توهم في عقلية السياسة الأمريكية- الإسرائيلية بإحداث شق في الصف الفلسطيني، فذلك بعيد لأن وعي أجيال النضال قد ارتقى وكشف كل الأحابيل والألاعيب وسياسة النعام التي عششت في ذهنية بعض القيادات.
رحم الله الشيخ احمد وغفر له، وهنيئا له الشهادة التي طالما تمناها، لقد حمل الأطفال في باكستان لافتات تقول: احمد ياسين شهيد أمة، احمد ياسين شهيد ملة، لقد مضى ويبقى الحماس، جهادا ضد العدوان والإرهاب الأمريكي- الإسرائيلي، وسيتحول إلى سماح إن حل السلم والسلام، مثلما كانت فتح حتفا، وستبقى فتحا وتفحا وحتفا.
ما أروع زفة شهيد الأمة والملة من محراب العبادة على أعناق الشرفاء من أهلنا والعشيرة في غزة التي ارتوت بدماء شهداء من السعودية ومن كل أقطار العالم المسلم منذ اكثر من نصف قرن. حسبنا الله ونعم الوكيل {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}
* باحث ومستشار إعلامي |