فوق ذاك التل كان واقفاً بجسمه الصغير يودعها كعادته، وها هي دموع الفراق من تلقاء نفسها تنهمر، حاول أن يبقيها معه باقي الوقت، لكن لم يستطع؛ فهي تغيب عن نظره رويداً رويداً حتى اختفت. لملم الطفل قواه المنهارة، ومسح دموعه، ورجع كعادته في الظلمة التي بدأت تعم طريقه بعدما أخذ الأجل أمه عند خروجه على هذه الدنيا، وما هي إلا شهور فلحق بها والده. تناقلته الأيدي في القرية حتى مشى على قدميه وأصبح يذهب ويأتي مع أصدقائه، كان دائماً يذهب إلى التل ليراها في الأفق فلا يحجب مخلوق منظرها عن عينيه، كانت تمده بأشعتها الدافئة فتجتاح جسمه الصغير لتدفئه وتشعره بالحنان الذي فقده والأمان الذي لحق به، كانت الابتسامة لها نصيب في لحظاته هذه وهو أمامها، لكن لا تلبث هذه الابتسامة حتى تغيب عن محياه البرئ، فطأطأ رأسه لتعود به الذاكرة إلى حقيقة وجوده على هذا الكون فتجتاحه أمواج الحزن والأسى لتدمي قلبه قبل عينيه. ارتسمت صورة أقرانه في القرية وكلٌّ منهم يخرج مع والديه للتسوق من سوق القرية الصغير إلا هو، كلٌّ منهم يخرج مع والديه ليزور جيرانه وأقرباءه إلا هو، كلٌّ منهم يخرج لقضاء بعض الوقت والتنزه بين أشجار القرية مع والديه إلا هو، كلٌّ منهم يمرح ويلعب ويشرب ويأكل تحت ظل والديه في أمان واطمئنان وسعادة إلا هو. اختنقت العبرات والآهات، وضاعت الكلمات في أحشائه، فلامسته أشعة الشمس لمسة عطف وحنان لم يشعر بها منذ فراق أمه التي لم يهنأ بأحضانها، وأمان لم يشعر به منذ رحيل أبيه عنه، فرفع نظره إليها، فابتسمت له وقالت: كل ما كتبه الله لنا في هذه الحياة من خير وشر وسعادة حزن سيصيبنا، فيجب أن نرضى بأقدار الله، وماضينا يجب ألا يكون عقبة في طريق حاضرنا تحرمنا من لذة حياتنا، بل يجب علينا أن نكافح ونبحث عن أرزاقنا لنعيش بقية ما كتبه الله لنا من العمر. فقم يا عزيزي وانفض عنك غبار الماضي بكل ما فيه من أحزان وآهات ودموع أحرقت وجنتيك، وابدأ حياتك من جديد، واجعلها بداية المتفائل بالخير المنتظر له.
فردَّ ودمعته الأخيرة تسلك طريقها على خده: كنت أتمنى أن أبي وأمي على قيد الحياة؛ لأشعر بطعم الحياة المفقود من بعد رحيلهما، فأعيش تحت جناح عطفهما وحبهما، وألبي طلباتهما، وأبرهما، وأنعم بتقبيل رأسيهما ويديهما، وأفخر بهما بين الناس.
فيا مَن رزقك الله بأب وأم على قيد الحياة، أو أحدهما، لا تُضِعْ هذه النعمة الكبيرة بالعقوق وعدم الطاعة؛ لأنه حتماً سيأتيك يوم تبحث عنهما وتلجأ إليهما؛ بحثاً عن عطفهما وحبهما فلا تجدهما.
رائد صقر السهلي / الرياض |