استرعتني ورقتان قدَّمهما الأخ الزميل أحمد الزهراني، وقد وجدت فيهما ما رأيته مفيداً، وكان عنوانهما، وهو عنوان واسع المعنى، جميل اللفظ، محبب إلى الأفئدة.
فقال: (البذل أنواع وعدة صور، والبذل ليس مقتصراً على بذل المال فحسب، بل مفهومه أوسع وصوره أعم وأشمل، ومن إحدى صوره سعي الإنسان في قضاء حوائج الناس وتنفيس كرباتهم.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أحب الناس إلى الله - عزَّ وجلَّ - أنفعهم للناس وأحب الأعمال إلى الله - عزَّ وجلَّ - سرور تدخله على مسلم تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً ولو أن تمشي مع أخيك في حاجته أحب إلي من أن تعتكف في المسجد شهراً).
سبب الود وسبب الجعل:
تكسب مودة الناس بأسباب متعارفة بينهم منها القرابة ومنها الصداقة ومنها صنائع المعروف ومآثر الإحسان، أما هذا الود الذي وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات فسببه جعل من الله له في قلوب العباد لهم دون تودد ولا توقف على تلك الأسباب فيودهم من لم يكن بينه وبينهم علاقة نسب أو صداقة ولا وصل إليه منهم معروف فهذا نوع من الود خاص يكرمهم الله به وينعم عليهم به الرحمن من جملة نعمه التي يحدثها ويحددها لهم زيادة على ما يقتضيه الإيمان والعمل الصالح - ومنه الإحسان - من مودة القلوب.
أما سبب هذا الجعل والوضع والإيجاد من الله لهذا الود والإكرام به فهو الإيمان والعمل الصالح وهما سبب لإكرامات كثيرة من الله تعالى.
وقد قيل في الحكم (التودد إلى الناس نصف العقل).
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف وخير الناس أنفعهم للناس).
ويقول: إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجات قائم الليل وصائم النهار وهي صفة من صفات المؤمنين نسأل الله العلي القدير أن نكون منهم.. انتهى.
وإن جاز لي أن أضيف شيئاً فأقول إن صنوف من البذل العفو عند المقدرة، فها هو رسول الهدى يبيِّن لنا في موقف عملي عن ذلك النوع من البذل الرائع عند فتح مكة المكرمة، وقد خضعت له رقاب من منعوه من نشر دعوته، وضايقوه، وطردوه وحاربوه من صناديد قريش فقال: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم: فقال عليه الصلاة والسلام: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
ومن صنوف البذل اجتناب الظلم مع القدرة عليه، فما من ظالم إلا وسيبلى بأظلم وما أحسب أبا الطيب قد أصاب حيث قال:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعله لا يظلم
فالناس فيها من الخير كثير، والظلم ليس من شيم النفوس كما يدَّعي، بل هو آفة تصيب ضعاف النفوس وهم قلة، وقد جاءت الكتب السماوية لتنير الطريق، وتقلِّل المظالم لتردع القلة غير السوية، وتريها طريق الصواب، فوالله ما من يد إلا ويد الله فوقها.
والكل على ذي الفضل محمول، ولذا فلا بد أن يكون أهلاً لما هو أهل له.
ومن البذل قبول العذر في غير مظنة ولا هوان، لأن العذر عند كرام الناس مقبول، والمعتذر كريم بتقدمه للاعتذار، والعاذر في قبوله العذر شارب من ذات المعين، وقد منحت الرغوة اللبن الصريح، وبعض القول يذهب في الرياح، وحسبك أن يقول لك صاحبك (ملكت فاسجح).
|