هذا العنوان جزء من آية كريمة، من سورة الأنعام، تبين أن الهداية لنور الإسلام نعمة من الله، يهبها لمن يشاء من عباده.
يقول سبحانه وتعالى في الآية 125 من هذه السورة:{فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء}.
فلا يجب على المسلمين أن يتبّرموا من الأحداث التي تدور، بل عليهم أن يستمّدوا منها طاقة، تمدهم بالصبر والثبات وتفقُّد الأحوال، فالمحن كثيرة، والمشكلات الموجهة للمسلمين والشبهات، كثيرة ومتنوعة. فلعل في مجريات الأمور درساً يربط كل مسلم بدينه ليحاسب نفسه، ويبحث عن الأفضل، وكل مجموعة مسلمة تدقق في الخلل، الذي جعل أعداء الإسلام يتجرؤون بشجاعة في مهاجمة الإسلام، والنيل من تشريعاته.
ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال:(نُصِرتُ بالرعب مسيرة شهر)، فإن الخلل قد يكون من القصور في فهم الإسلام: تطبيقاً وتشريعاً، لأن المهابة لا تنتزع من قلوب الأعداء، إلا من نقص الإيمان في القلوب. ولذا كان الإيمان محله القلب وتصديقه الجوارح بالأعمال، كما عرَّفه علماء الإسلام، كما أن حِرْصَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كيان الإسلام بألاّ يتقوّض بتحميل المسؤولية كل فرد، حتى لا يكون نافذة يدخل منها الأعداء، بقوله الكريم:(كل منكم على ثغر من ثغور الإسلام، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبله)، إنها مسؤولية هذا الدين الكبيرة، الملقاة على عاتق كل واحد يجب عدم التهاون بها.
فقد يطمئن قلب من اقتنع بالإسلام، ليجعل الله على يديه، ومن سيرته خيراً للإسلام وتعريفاً به، فقصة اليهودي: مخيريق الذي انتقد قومه يهود المدينة، عندما ساعدوا المشركين ضد رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فلم يسع مخيريق إلا أن يتقلَّد سلاحه، ويقاتل إلى جوار رسول الله، ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - يذكره إلا ويقول:(مخيريق خير يهود) حيث مات مقتولاً مع رسول الله. وهكذا سار ابنه في حروب الشام عند فتحها الإسلامي، فكان ابن مخيريق يقاتل مع الروم، ولمّا أخبرته أمه بما عمل أبوه مع جيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضد المشركين، ما كان منه إلاّ أن بيّت أمراً لم يخبر أحداً به. وبعد أيام: إذا بطارق يطرق الباب، فإذا هو يسأل عن أرملة مخيريق بعد فتح دمشق، ثم يقول لها: أبشري يا أمة الله، لقد فاز ابنك بالشهادتين.. إنها قصة أخذت بمجامع القلوب، وخاصة من أراد الله بهم خيراً، واهتدوا لدين الإسلام، حيث فازوا بسعادة الدنيا وفوز الآخرة.
وقصة إسلام من نتحدث عنه، كان يهودياً، ولسانه عربي، وأخذت هذه الحكاية بفصليها بسويداء قلبه، فتحركت فطرته، بعد أن تأملها جيداً، وتمعَّن في أبعادها فقال: هذا وأمثاله من أخيار المسلمين كان يطرق قلبي طرقاً عنيفاً، لا أجد له دافعاً، ويطرقه كذلك شعور قوي عنيف، كلما استمعت إلى القرآن، يقرؤه مقرئ حلو الصوت، حسن الترتيل، فما ذهبت لأعزي مسلماً مرة، إلاّ ونسيت نفسي، فتنتهي قراءة إثر قراءة، وأنا مأخوذ بسحر هذا القرآن العجيب، وما سمعت المؤذن يؤذن للصلاة، ويرفع صوته العذب بقوله: الله أكبر، وبأنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، إلا وغشي الخشوع قلبي، ودخلت الطمأنينة نفسي، فأستمع مسلوب الإرادة، مأخوذاً بهذا السحر الحلال. بل ما اطَّلعت مرة من نافذة القطار أو السيارة، فرأيت في طريقي تلك المصليات الصغيرة على حواف الترع، يقوم الرجل أو الرجلان فيها للصلاة تاركين أعمالهم، في بساطة لا تبلغها بساطة، وفي خشوع لا يدانيه خشوع إلا وخشعت مع هذا الخشوع نفسي، وإلا هفا قلبي إلى مثل موقفه هذا، أريد أن أتصل بربي من هذا الطريق الحلو السهل، الذي لا تحوطه مظاهر ولا تغشاه صنعة.
ونظرت في أصول هذا الدين واتصلت بالشريعة وأحكامها، فهويت دراستها ورحت أبحث في كتبها فاستهواني هذا النظام العجيب، الذي قام على أساس القرآن وحده، فرسخت أصوله، وعلت فروعه، باسقة تزري بذلك النظام الروّماني الذي شيّد عليه الغرب شرائعه، فزدت للقرآن إكباراً، وراح عقلي بعد قلبي يتصل بهذا الدين الحنيف، وينظر فيه نظر الباحث المدقق، نظرت أول ما نظرت في العقيدة الأصلية التي يقوم عليها البناء كلّه، فإذا هي العقيدة الأزلية التي قامت على أساسها عقيدة أبي الأنبياء إبراهيم ومن بعده: إسحاق ويعقوب ويوسف، ثم موسى مؤسس الموسوية الأولى، عقيدة التوحيد المحض، الخالصة من الشوائب المتصلة بالله اتصالا مباشراً، لا تعوقه واسطة ولا شكل، المتجرِّدة إلا من الشعور العميق، بعظمة الخالق، وجمال الخلق.
ثم نظرت في رسالة هذا الرجل العجيب من نسل إبراهيم، الذي لم تؤهله للرسالة ثقافة ولا علم ولا دين، بل أُصطُفي في بقعة قحلاء جرداء بعيدة عن العمران، فنشأ كما ينشأ الناس، وعاش عيشتهم، وحيا حياتهم، ثم إذا به وقد أوحى الله من حيث لا يعلم، ولا يعلم أحد بهذا الكتاب العجيب، الآتي من وراء الحجب، والمليء بأخبار الأولين، مصفّاة نقيّة من الشوائب، التي راكمها ألوف السنين على الأصل الطيب، طبقة فوق طبقة، ولوناً فوق لون.
فإذا الأصل جميل باهر السناء، من أين جاء هذا كلّه، إلا من لدن الله، وبرسالة من الله إلى رجل اصطفاه الله ليكون نبي الإنسانية عامة وبلا استثناء؟ ثم تساءلت: أليس لهذا الأمر آية أو عليه علامة؟ نظرت وأطلت في النظر وفكرت وأطلت في التفكير، فإذا بالآية قائمة، وإذا بالعلامة ظاهرة، إنها البساطة التي ليس وراءها بساطة، البساطة الخالية من الصنعة، يصفها الله سبحانه فيحسن وصفها، إذ يوحي إلى رسوله أن يقول:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (110) سورة الكهف.
هذه ومضات مما تحدث به المحامي: زكي عريبي، وهو يعلن إسلامه بعد دراسة طويلة، ليرد على بعض ألسنة السوء التي قالت: لماذا إذن لم يعلن الرجل إسلامه منذ قديم؟ ولماذا أعلنه الآن ؟ إن ثمة سبباً خفيّاً، أو باعثاً قوياً قد حمله الآن على فعل ما فعل، لقد رهب الرجل أو رغب، خاف أو طمع، إنها صناعة أو تجارة إلى آخر ما قالوا.
فردَّ على تلك الأقاويل، مثبتاً نيّته في الإسلام، وهكذا يكون الصادقون المخلصون، فيقول: وإني لأشهد الله، ثم أشهدكم أن الأمر تجارة، ولكنها تجارة من نوع معيّن، هل تحبون أن تعرفوا سرّها وماهيتها؟
إنها التجارة التي يقول فيها الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (10- 11) سورة الصف. والحق أقول لكم: لقد راودتني نفسي في إعلان إسلامي منذ سنين، وأسررت بذلك إلى بعض أصدقائي، فأشاروا إلي بعد مناقشة بأن أرجئ هذا وقتاً ما، ثم جاء الموعد الذي أراده الله وتمَّ الإعلان، بعد أن كبرت وخفت من مفاجأة الأجل.
وإني أيها الأخوة لأحب لكم أن تؤمنوا، لا بما توارثتموه، بل بهذا الذي شعرت وأحسست به، وبهذا الذي خبرت وعاينت، وبهذا الذي نظرت فيه طويلا، وفكَّرت، واقتنعت، وحاشا لله أن أقول: إن إسلامي فوق إسلامكم، ولكن من الخير لكل منكم أن يمرّ بما مررت به أو بعضه، فتذوقوا حلاوة الإيمان.
حكاية ونادرة
جاء في كتاب ( مقالات الأدباء، ومناظرات النجباء) لعلي بن هذيل: حكاية ونادرة.. أما الحكاية فهي:
قال خالد بن الوليد لأهل الحيرة: أخرجوا لي رجلاً من عقلائكم فأخرجوا له عبدالمسيح بن قيس الغسَّاني، وهو الذي بنى القصر، فقال له خالد: من أين أقصى أثرك؟ قال: من صلب أبي. قال: فمن أين خرجت؟. قال: من بطن أمي، قال: فعلامَ أنت؟ قال: على الأرض. قال: ففيم أنت؟. قال: في ثيابي، قال: ما سنّك؟ قال: عظم. قال: أتعقل؟. قال: نعم وأقيّد. قال: ابن كم أنت؟. قال: ابن رجل واحد، قال: ما تزيدني مسألتك إلاّ عمى. قال: ما أجبتك إلا عن مسألتك؟. قال: أعرب أنتم أم نبط؟. قال: عرب استنبطنا. أو نبط استعربنا. قال: حرب أنتم أم سلم؟. قال: بل سلم. قال: فما بال هذه الحصون؟ قال: بنيناها للسّفيه، حتى يأتي الحليم فينهاه. (ص178).
وأما النادرة فهي
اشتكى ابن شمّاس بالكوفة، فدخل عليه بعض الأطباء، فقال له: ما اسمك؟. احفظوا البول، إلى غدٍ، حتى أنظر إليه، وأشير عليك بما يتبيّن لي منه، ومضى عنه.
فلما كان من غدٍ غدا إليه، فرآه في كرب عظيم، مما قد امتنع من البول، وقد كادت مثانته تنشقّ، فسأله عن حاله. وطلب منه الماء فعرّفه ما فعل.
فقال: إنا لله .... أضررت بنفسك، وزدت في علّتك، إنما أمرتك أن تمسك ماءك في زجاجة كما يفعل الناس.
وأما علّتك، فإنك سوف تفيق منها إن شاء الله تعالى، وإنما أخشى عليك الموت من الحمق لا غير، كما يقال في المثل: من لم يعرف الشرّ، كان أجدر أن يقع فيه (ص183).
|