Thursday 25th March,200411501العددالخميس 4 ,صفر 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

فيض الضمير فيض الضمير
بداية الغيث
د. محمد أبو بكر حميد

لم تتصور القيادة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تقرِّر غزو العراق وسط موجة من الانفعالات الإعلامية، وتحت شعار القضاء على الخطر الذي يهدد أمن الولايات المتحدة والسلام العالمي.. لم تتصور حجم الكارثة التي ستنجم عن ذلك الاحتلال. بل حتى تقديرات القيادة العسكرية لم تحسب حجم المواجهة التي قُوبلت بها في بداية حربها على العراق؛ مما أدَّى بها إلى تغيير خططها قبل ظهور العوامل التي أدَّت إلى الانهيار السريع في بغداد.
رغم درس حرب فيتنام المؤلم، وتجربة الخروج المرير والسريع من لبنان والصومال بعد تورط قصير، إلا أن القيادتين السياسية والعسكرية لم تضعا ذلك في الحسبان قبل اتخاذ قرار دخول المستنقع العراقي ومحاولة السباحة فيه. ربما كان الشعور بأن الشعب العراقي الذي كان يأمل في التخلص من طاغيته سيرحب بهم ويأخذهم بالأحضان، وربما كانت دوافع الاقتحام أقوى من دوافع الإحجام، وربما كانت الرغبة القوية الكامنة في الاندفاع نحو المغامرة أقنعت الأمريكان بالاحتمال الأول تمهيداً للاحتمال الثاني.
والآن بعد أن توغلت أمريكا في الوحل العراقي، وخاضت في المغامرة بعمق، بدأت تدرك الفرق بين إخضاع نظام وإزالته وبين إخضاع شعب وحكمه. وهو درس مكرر عرفه الاستعمار القديم الذي بدأ ينسى دروسه. فقد تورَّطت بريطانيا، ثم إسبانيا، ثم جرَّت أمريكا دولاً أخرى لها مآرب في العراق، آخرها وأكثرها عجباً اليابان عدو أمريكا القديم!.
يهم أمريكا ألاَّ تكون وحيدة في خوض المغامرة، واشتراك الآخرين معها -في تصورها- يعطي وجودها صبغة شرعية دولية. وربما لاشعورياً تحس أنها لن تتكبد الخسائر وحدها، وسيخفف من آلامها أن ترى غيرها شريكاً في هذه الخسائر.
يُشاع أن القوائم الحقيقية لقتلى قوات الاحتلال في العراق أكبر من الأعداد المعلنة. وحتى لو لم يصح ذلك فإن الأرقام المعلنة يومياً كبيرة وخطيرة، لها مفعولها السلبي على نفوس الشعب الأمريكي وأسر هؤلاء الجنود. وقد أدى هذا إلى ظهور نوع من الغليان في الداخل، بدأ يتشكَّل في حالات سخط، وبدأ الشعب الأمريكي يسأل: لماذا يموت أولادنا في العراق؟! ولماذا نُصِرُّ على البقاء في بلد لا يريدنا أهله؟! وهل العالم لا يزال يصدق أننا ذهبنا إلى هناك لتحرير العراق وضبط أسلحة الدمار الشامل؟!
وانتقلت هذه الأسئلة بالطبع للتداول في مجتمعات الدول التي شاركت أمريكا في حربها، وفقد القادة الذي شاركوا في المغامرة الأمريكية معظم ضمانات إعادة انتخابهم، وأصبح الانسحاب من (ورطة العراق) شعار الحملات الانتخابية الجديدة في الدول الأوربية المشاركة.
ها هو رئيس الوزراء الإسباني المنتخب لويس رودريغيز يدعو أمريكا وبريطانيا إلى ممارسة نقد ذاتي بشأن ورطة العراق، ويؤكد أن إسبانيا ستسحب قواتها في يونيو المقبل، وقال مُعلِّقاً: (إن حروباً مثل حرب العراق لا تُولِّد إلا الكراهية والحقد والعنف والرعب.. إن احتلال العراق كارثة). كما أعلن رئيس المفوضية الأوربية أن حرب العراق لم تَقْضِ على الإرهاب، بل أجَّجت ناره (بدليل أن الإرهاب بات الآن أقوى بكثير مما كان عليه قبل عام).
ولهذا، فإن الإصرار الأمريكي على الاستمرار في المغامرة قد يُسفر عن بقائها وحيدة في الساحة دونما سبب مقنع بعد أن سقطت كل الذرائع، وسقطت ذريعة الأسلحة الكيمائية التي أصبحت مجال تندُّر، وسقطت ذريعة (التحرير) بعد زوال النظام ورفض الشعب العراقي للوجود الأمريكي. وليس ما يحدث على الساحة الدولية من تفاعلات وتزايد في نشاط المقاومة الشعبية في العراق ليس إلا بداية الغيث، فإرادة الشعوب لا تُقْهَر؛ لأنها من إرادة الله مادامت تُطالب بحقٍّ.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved