هناك أسباب لضعف بلدان العالم الثالث والبلدان العربية في مواقفها التفاوضية في إطار مؤسسات ما يسمى العولمة، وهناك مجموعتان من الأسباب، أسباب أساسية، أو رئيسية تحدثت عنها في مقال سابق، فالبلدان النامية التي قادت دعوات التضامن والتكتل الاقتصادي قد تعرضت إلى عدد من الضغوط الدولية للتخلي عن هذه الفكرة، وقد تضررت اقتصاداتها الوطنية نتيجة لإصرارها ولمواقفها الملتزمة، وتعقدت عندها عدد من المشاكل السياسية، كما حصل لماليزيا سابقاً كدولة دعت لفترة طويلة إلى التضامن الاقتصادي الآسيوي وإلى إيجاد صندوق نقد آسيوي يعفي من الرجوع إلى صندوق النقد الدولي الذي يسيطر عليه الغرب.
أوضحت ذلك دراسة قدمت للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وذكرت أن الأسباب الاجرائية لضعف البلدان النامية في القدرة التفاوضية فإن خبرة ما يجري في إطار منظمة التجارة العالمية في الوقت الحاضر يدلل أن تلك البلدان لا تأتي إلى مائدة المفاوضات وقد أعدت واجبها وحضرت لمثل هذه العملية التي تعتمد الحجة والمنطق في إدارة الصراعات الاقتصادية وحلها، يضاف إلى ذلك افتقار واضح للموارد واللامبالاة وعدم ربط المصلحة بالبدائل الاقتصادية، والخوف غير المنظور من مناطحة الكبار، ويتضح هذا السبب في أن معظم الدول العربية بالذات والنامية عموماً تتردد في مجادلة الدولة المصنعة الكبرى خوفاً من المضاعفات الاقتصادية والسياسية، فالمألوف في مثل هذه المفاوضات وعندما تتقدم البلدان المصنعة لمقترح الاتفاقية فإنها تبدأ باتصالاتها الثنائية مع العرب وغيرهم، وتمارس عليهم الضغط الذي غالباً ما يرضخون له، وتنتهي النتيجة لصالح الكبار. وتشير الدراسة إلى أن العديد من تلك البلدان تشعر بأن أوضاعها الاقتصادية تعتمد اعتماداً كلياً على إحدى البلدان المصنعة أو في مجموعها مما يحجبها عن أخذ موقف المواجهة، حتى إن كان على حساب مصالحها الحقيقية. وأغرب ما في الأمر أن المجموعة العربية وبقية مجاميع بلدان العالم الثالث نادراً ما تنتصر لأحد أعضائها إذا ما تعرض لهجوم أو ضغط من قبل البلدان الصناعية الكبرى، وقد يكتفون بالتصريحات اللفظية المساندة، ولكنها لن تقترن بالفعل والتأثير على القرار بشكله النهائي. وتضع الدراسة ملامح لما يمكن أن تقوم به تلك الدول من أجل تعزيز القوة التفاوضية للبلدان العربية ولبلدان العالم الثالث واحتلال الموقع الفاعل في النظام الاقتصادي العالمي، وفيما يجري من تدويل أو ما يسمى عولمة، منها ترتيب البيت الداخلي بشكل استباقي، واعادة هيكلة اقتصاداتها بالشكل الذي ينسجم مع أهدافها الإنمائية الوطنية، والتفكير والتطوير المؤسس والتنظيمي، والاستثمار في رأس المال البشري، وتوفير البنية التحتية الاجتماعية التي تضمن تراكم رأس المال الاجتماعي. والخطوة الأخرى هي التكتلات الإقليمية والتعاون بين البلدان النامية، وبالنسبة للبلدان العربية فإن أول ما يتوجب إحياؤه هو النظام الاقتصادي العربي واستراتيجية العمل الاقتصادي العربي المشترك، وإن كانت الوحدة العربية كما تقول الدراسة يوماً طموح الشعب العربي، فإنها في يومنا هذا يتوجب أن تكون طموح الحكومات، كذلك فالوحدة الاقتصادية العربية لم تعد رفاهية أو خياراً، بل هي ضرورة حتمية تفرضها مقتضيات التاريخ، إذ لم يعد يمكن لبلد عربي وحده أن يكون فاعلاً في إطار منظمة التجارة العالمية وحتى في حالة البلدان المصنعة التي سارعت قبل غيرها إلى التكتل.
التجمعات الإقليمية هي نزعة غريزية في أساسها، وبمعنى التشبث بالبقاء مقابل ما يجري من تدويل وما يسمى بالعولمة، فبالرغم من تقوية نظام التجارة وتعدد الأطراف والتبشير بالعولمة في إطار منظمة التجارة العالمية، فإن ما يلاحظ على أرض الواقع ظهور نزعات معاكسة، وباتجاه انتشار الاتفاقات التجارية الإقليمية خلال السنوات الأخيرة، فمنها ما أنشئ حديثاً، ومنها ما تزايد عدد أعضائه، وتم تعزيز مواقعه، ولعل الأهم من بين تلك التجمعات هو تجمع (النافتا) الذي يضم أمريكا وكندا والمكسيك والتشيلي والمجموعة الأوروبية ومجموعة (الآسيين) في آسيا، هذا هو المنطق الطبيعي في نظر الدراسة، وكرد فعل على عمليات التدويل الجارية وأدوار الدول الوطنية في الرد على ذلك، وضرورة أخذ الدول العربية بذلك، فمنطق مثل هذه التجمعات والاتفاقيات التي تحدد عملها لا تمليه قضايا التجارة فحسب، بل يتعدى ذلك ويغطي قضايا التكنولوجيا والسياسات المالية والنقدية ضمن الإطار الأوسع لاحتلال موقع فاعل ومؤثر في الاقتصاد العالمي.
وقد بدأت التجمعات الإقليمية وكتلتها توفر فرصاً تتجاوز الفرص التي من المفترض أن يوفرها السوق العالمي واتفاقياته، وهذا أمر حتمي من المنظور الحمائي والدفاعي، ومما دعا إلى موجة جديدة من الإندماجات والتكاملات الإقليمية صحبتها مناقشات لقضايا عديدة والاتفاق بشأنها، وعلى رب العالمين الاتكال.
|