التناول والتعاطي (فن) غاية في التعقيد و(حرفة) قمة في الغموض والاشتباك (التواصل والتفاعل) عالم مجهول وسراديب مظلمة طويلة ملتوية.. نورها ونبراسها العقل والحكمة والحنكة، ومخرج ذلك التفاعل أنك تتصور وتبني (موقفاً) وفق تحليل ومعطيات محفوفة بإدراك وتأصيل حقيقي مرجعي ومستقبلي شامل، والذي بدوره سيحيلك إلى الرؤية الثاقبة في الغالب الأعم.
عند ذاك وبعد كل هذا الإعمال الذهني والفكري والثقافي فإن (العقيدة الفكرية) التي ستتبناها حيال (ذلك الشيء) ستكون جزءا من شخصيتك ولبنة رئيسة لوجودك وكيانك ومؤشراً بارزاً يكشف للآخرين - من متلقين ومتابعين - مدى الأصالة والضبط والثقة التي تتصف بها من عدمها!! ولذا فإن اهتزاز تلك (العقيدة) وتقلبها وتلونها من حين إلى آخر يدعو لأن يعيد المتابعون ومتعطشو الحقيقة النظر في أهليتك وثقافتك.
ومع أن المفترض بنا ونحن الذين رضعنا واحتسينا النكسة تلو النكسة - سياسياً ودينياً وثقافياً - أن نكون قد أخرجنا جيلاً من محترفي الرصد والتبصر والعبر (مثقفي المأساة) أصحاب نبرة.. للتاريخ والمتصفون (بالأمانة المحرقة) التي أملتها عليهم طبيعة توسطهم في قلب الحدث.. إلا أن الأهلية في الحكم المستلزمة للرؤية والإدراك الحقيقي باتت ناقصة خديجة يشوبها الكثير من المغالطات والتناقضات المخلة والمربكة وبات التصور ضرباً من تقلب الليل والنهار.
فمع اتساع الآفاق وتعدد المواطن وتباين المناخات لم يعد لذلك (الخطيب) الذي ارتقى منبره أو لذلك (الحادي) الذي امتطى دابته ونقل لنا ومنا الأخبار، أو لذلك (المعتلي) بين اتباعه ومريديه أي تأثير يذكر في رسم البينة والحقيقة، لتخمة ما نعيشه من مفرزات الحضارة الصناعية والاكتشاف.
وسيلة واحدة فقط - من وجهة نظري - هي التي طغت في تبنيها استيعاب الحدث وتشكيل الرؤية (الإعلام) نعم الإعلام بجميع صنوفه وقنواته هو المخول الوحيد والكفء ذو النفوذ والتمكن، (الإعلام) كجهاز وكبنية تراكمية تقنية وطواقم وكوادر ذهنية وحرفية ووثائقية.. قد لا يكون مثار بحثنا ونقاشنا ولكن الأهم من ذلك كله هو (الموقف والمبدأ) الذي تم تبنيه في خطابه!! في بداية قولي ألمحت على أهمية وضرورة (الحرفية الأصيلة) في طرق التواصل والتقارب بين الأطراف والتي ينتج من خلالها حكمك ونظرتك إلى الآخر - أيا كانت هويته وثقافته - فالحكم في الأخير ما هو إلا إفراز سبر ونتاج دراسة ما يدعونا لأن نناقش ونتلمس خامات ذلك الحكم ومواده الأولية قبلاً بأمانة شديدة!!
الخطابات الإعلامية العربية ومنذ مطلع التسعينات الميلادية عاشت ثورة سياسية توجيهية وتقنية معلوماتية هائلة جعلت منها صنوفاً ومدارس في المنطلقات والمرجعيات، وكلها كانت ولا تزال تدعي الموضوعية والحيادية والبحث عن الحقيقة، إلا أن ذلك لم يكن إلا شعاراً ترويجياً يراد منه التسويق والنشر ليس إلا فقد دأب الكثير منها على الجمع بين التناقضات وامتهنت (الحدية)، و(الاثنية) في تناولها مما عمل على زلزلة أركانها وصدقيتها فتراها اليوم على قول وفي الغد على قول وهكذا دون مراعاة لفترة انتقالية ومسوغ موضوعي طبيعي يزيل الغبش، نراها تمارس التنقل الفج من على جبهات المواقف والآراء وكأنها تحترف (التبضع) و(التجارة) وتمارس اللهو في تناولها وطرحها.
كثيرة هي (النماذج الأكمل) المؤهلة لذلك، ومع كونها - الأمثلة - متفاوتة متباينة وفق ظروفها إلا أنها تكشف لنا بجلاء مدى (الخلل والخطل) الملازم للرعونة والرعشة التي تبدو عليها تفاعلاتنا.
فعلى سبيل المثال ترى في خطابنا الإعلامي المحلي - بصنوفه - أنواعاً من (مظاهر التكيف القسري مع البيئة!!) التي دائما ما تضطرنا إلى أن (نتحرج) من أنفسنا قبل أن نتحرج من (عالم) يعج بالمراقبين والمتابعين العقلاء!!
فهناك الكثير من القضايا والرؤى التي تم طرحها ونقاشها قبلاً وبعداً وقد تفاوتت طرق ذلك حتى ارتفعت واحتدمت لتصل إلى درجة من التباين والتناقض مع أن وضع وماهية (عين القضية) لم يتغير ذلك التغير الجذري الذي يضطرنا إلى أن نصدر الحكم وضده.
(فالمناهج) مثلاً قد تم تدارس تلك القضية (من قبل) وقد خلص الأعم الأغلب بعد الفحص والتدقيق إلى أن مناهجنا بريئة من النقض والوهن كبراءة الذئب من دم يوسف، ثم نفاجأ من بعد ببروز مطالب الإصلاح والتغيير، وقد قيل قبلاً بأن (الفقر) والعوز (طوارىء) تحت السيطرة ودون الخطوط الحمراء بكثير.. ثم نفاجأ بصيحة إعلامية مدوية بعد أن نكأ ولي العهد - حفظه الله - الجرح في أحياء الرياض، حيث بدأت الصحف والأصوات تطالب بمشاريع التنمية وصناديق الادخار وتفعيل دور المواطن والجمعيات الخيرية. وقد قيل سابقاً إن (الحج ومرافقه) مشاريع قد تم تطويرها لتواكب النمو المتزايد لأعداد الحجيج ثم نفاجأ بعد (مأساة الجمرة) بنفث الآهات من تحت أنقاض الحقيقة المؤلمة مطالبة بالمزيد والمزيد.. وهناك المزيد والمزيد من الأمثلة.
وعلى الصعيد الإقليمي والدولي هناك حقائق تكشف لنا بجلاء (فوضوية) الكثير من الخطابات الإعلامية العربية التي تلزم نفسها بموقف ثم ما تلبث إلا (وتقلب لماضيها ظهر المجن) ما جعل المتابع العادي يتحسر على جهود قد بذلت، قديماً (جُعل) من ابن لادن رمزاً للجهاد والإسلام وتم تكريس و(إرغام الظروف وقهرها) حتى يتقبل الجميع ذلك الطرح ثم حانت الفرصة ليتم الكشف عما خفي.. وقيل قديماً (صدام) رمز العروبة وحامي عرينها وتمت مراسم التعبئة والتجييش وفق هذا المنطق.. ثم يتقادم الليل والنهار ليفيق العالم على وجه آخر من الحقيقة.. وهكذا!!
أعيد وأكرر بأنني لست بصدد مقاضاة (الحكم) بعينه بقدر مقاضاتي لمرافعات وحيثيات ذلك الحكم وكيف تم التوصل إليه بقضه وقضيضه؟!! وكيف تم التعامل مع الظروف التي صنعت الماضي؟ وكيف هانت على الكثير(عقيدتهم الفكرية) ليمارسوا معها العهر والبغاء ويمتهنوا من ورائها الربح والمتاجرة؟ عجبي!!
|