وقفت أمام حائط مظلم لذلك الليل الطويل الذي داهمني فيه من الهمِّ وانشغال الذهن ما أثار كوامن الألم في نفسي. وقفت حزيناً أتأمَّل عقارب الساعة التي كانت تشير إلى بداية الثلث الأوّل من ذلك الليل الطويل الذي أرخى سدوله عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي على رأي الشاعر الضَّخم امرئ القيس، ومعنى ذلك ان رحلة طويلة من العناء ستجعل معاناتي شديدةً صعبة في خِضَمّ ذلك الليل الطويل.
إن أحساسي بثقل خطوات ذلك الليل قد أدخلني إلى سراديب الوحشة وكهوفها، وضخَّم صورة الهمِّ الذي كان قد أحكم سياجه على ذلك الخافق النابض في صدري ورسم أمامي صورة لعملاقٍ ظلاميٍّ مخيف.
وكذلك النفس البشرية إذا استسلمت لآلامها، وخضعت لأوهامها، وغرقت في محيطات أحزانها، فإنها تحكم - حينئذٍ - على صاحبها بالسجن المؤبّد في غياهب اليأس والقنوط، ولا يمكن أن ينقذها من هذا السجن التمنِّي، ولا ينفعها التَّسَخُّطُ والتجنِّي، وإنما ينفعها دواء اليقين، الذي يكشف أمامها الحجب، فترى ساحة التفاؤل المشرقة، وراء ذلك الظلام الكثيف.
حينما تطاول على خافقي ألمه، وتحامل عليه حزنه، وتضخَّمتْ في عينيّ صورة ذلك الليل الطويل الثقيل، حتى ما عُدتُ أرى فيه بصيصاً من نور، رجعتُ إلى ذخيرتي وكنزي العظيم من إيماني بخالقي، ورفعتُ عينيَّ إلى السماء لأناجي الذي لا يغفل عن خلقه ولا ينام، وبدأت أتأمَّل أديمَ السماء في خضمِّ ذلك الظلام، فلاحت أمامي أضواء النجوم والكواكب تتزاحم على أديم ذلك الليل في أجمل صورة وأبهاها، وبدأت نوافذ الأمل تُفتح، وأنوارُ التفاؤل تدخل إلى عالمي خيوطاً من نور قد اتصلتْ أطرافُها بقلبي الخافق، وأطرافها الأخرى بواحات الإيمان وبساتين اليقين.
سبحان الله العظيم:
لم أتحرّك - حينها - من موقعي في ذلك المكان، ولم أتقدم أو أتأخر عنه خطوة واحدة.
قبل قليل كنتُ أرى الكون ظلاماً دامساً لا ضياء فيه، وها أنذا الآن أرى النجوم والكواكب تزدحم أمامي على أديم السماء.
ما الذي جرى؟
إنها النفس البشرية، هي مصدر الظلام، ومصدرُ النور، مصدرُ السعادة، ومصدر الشقاء (كن جميلاً تر الوجود جميلاً).
تلك حقيقة لا ينكرها عاقل: إذا انشرح الصدر، واطمأنّت النفس، أشرق الكون، وضحكت الآفاق، وإذا ضاق الصدر، واضطربت النفس، أظلم الكون، وبكت الآفاق.
ومع هذه الحقيقة حقيقة أخرى هي: إذا امتلأ القلب بالإيمان، تحقّق الاطمئنان، وانشرح الصدر، وهدأت النفس، وترقّى الإنسان في مدارج اليقين.
كل ما في الدنيا صغيرٌ صغيرٌ أمام عظمة الله سبحانه وتعالى، ولا تتحقّق السعادة للإنسان إلا إذا استشعر عظمة خالقه، لأنّه - عند ذلك - يصبح غنيَّ النفس عما سواه.
ليس الغنى عن كثرة العَرَض، ولكنَّ الغنى غنى النفس.
غنى النفس؟!
ما أعظم بيانَ محمد بن عبدالله، وما أبلغه عليه الصلاة والسلام
إشارة
يا ليل: طُلْ ما شئتَ أنت على
بوَّابة الإيمان مختصَرُ
بيني وبينك شمعةٌ، دَمُها
زيتٌ من الجوزاءِ معتصَرُ |
|