(1)
** لم يكن«أبو علي الفارسي» يُطيق«المتنبي» فرآه بعين«السّخط».. وضّاده«ابن جنّى» الذي فاضتْ رؤيتُه بمطلق«الرضا»، وجمعتهما جلسة علميّة طلب«أبو علي» فيها بيتاً للبحث، فروى«ابن جني»:
* حُلتِ دون المزار فاليوم لو زرتِ لحال النحول دون العناقِ
** فأعجب أبا علي واستعاده.. وقال: لمن هذا البيت فإنه غريب المعنى؟
فأجاب«ابن جنّى» للقائل:
أزروُهم وسواد الليل يشفعُ لي
وأنثني وبياضُ الصُبح يغري بي
** فقال أبو علي: وهذا والله حسن بديع جداً.. فلمن هما؟
فرد ابن جني : للذي يقول:
أمضى إرادته فسوف له قدٌ
واستقربَ الأقصى فَثمَّ له هنا
** فازداد إعجاب«الفارسي».. وسأل: لمن ؟ ومضى«ابن جني» مضيفاً : لمن يقول:
ووضع الندى في موضوع السيف بالعلا
مُضرٌ كوضع السيف في موضع الندى
** فاستحسنه.. وقال«أطلت يا أبا الفتح.. فلمن هذه الأبيات ؟
وهنا انطلق«ابن جني» ليفرض«منطقه» في تغيير اقتناعات«أبي علي» وأجابه: إنها لمن لا يزال الشيخُ يستثقل ظلَّه، ويستقبحُ زيّه وفعله، وما علينا من القشور إذا استقام اللّباب.
وعرف«الفارسي» أنه المتنبي فقال:
والله لقد حبِّبته إلى وعرَّفتني بقدره...!
** حكايةٌ تراثيةٌ ذاتُ دلالةٍ.. تتكاملُ مع حكايات أخرى منها ما رواه«ابن العميد» الذي كره«المتنبي» وسعى إلى إخماد ذكره، وحين توفيت أخت«الصاحب» ورد عليه أكثر من ستين كتاباً في«التعزية» صُدِّرت ببيتي أبي الطيب:
طوى الجزيرةَ حتى جاءني خبرٌ
فزعتُ فيه بآمالي إلى الكذبِ
حتى إذا لم يدعْ لي صدقُه أملاً
شرقتُ بالدمعِ حتى كاد يشرقُ بي
فحزن أكثر.. وعرف - حينها - ألا مجال لإطفاء الشمس!
(2)
** نتجاوزُ«ألف عام» لنرى أننا نعيد إنتاج«حكاياتنا» بسلوكٍ يتشابهُ في«الناتج» وإن اختلف في التفاصيل!
** وقبل فترةٍ بسيطة أنزل أحد مواقع الإنترنت«مقالاً» لمفكّر«ليبرالي» على أنها لآخر«إسلامي» فتتالت«معلقات» المديح.. وبعد أن كُشفت«الخدعة» سقطت«الأقنعة»، وألجم«المطبلون»..!
** نكرر ممارسة«الفارسي» و«ابن العميد» لأننا نقرأُ«الأسماء» أولاً، ونهتمّ«الحزب» أو«التيّار» أو«التوجه» ثانياً وعاشراً، ونعيد بوعي وبدونه:
وهل أنا إلا من «غزيّة» إن غوت
غويت وإن ترشد غزية أرشدِ..!
** عادت حكاية«الشلة» أو«الثلة» التي سادت الأوساط«الأدبية» زمنا، وقسمت«المنتديات» و«المطبوعات» إلى«حداثية» و«تقليدية»، وباتت -الآن- و«شماً» يصفُ المعطيات«السياسية» و»الثقافية» و»الاجتماعية» بحيث اختفى«الموضوع» داخل الشخصانية.. وانتهت«القضايا» بإيماءةِ رأس«نعمية» أو«لاءية» تؤمِّنُ على ما قاله أو فعله«الرمز» الموسومُ«بالصدقيّة« لدى«أشياعِه»..
** وتأتي ممارسةُ«التعتيم» لتبرزَ«الإقصاءَ» العبثيّ الذي يحسبه« المُقصونَ« - بصيغة اسم الفاعل - داءً، وربما وجده المُقصَوْنَ -بصيغة اسم المفعول - دواء.. ليسقط«التلميعُ» ويبرز«اللامع» مثلما هي سنة التاريخ
(3)
** في مقابل العَيْن«المفتوحة» لرصد«المثالب» عين«مغلقة» لا ترى غير«المناقب».. ومثلما تمارسُ تلك«التحطيم» تدعو هذه إلى«التصنيم».. وفي كليهما إلغاءٌ لبشرية الحركة المجتمعية المستحقة عبر معادلة«النجاح» و«الفشل»..!
** ولعل تجربة الاتحاد السوفيتي السابق قبل«البيروسترويكا» المتكئة على«الغلاسنوسنت»«أي«إعادة البناء» مع«الشفافية» كفيلة بتقديم«درسٍ» مهمٍ لنا في مرحلة«التحول» التي لا يستطيعُ«المتنبئون» - مهما نجّموا- تحديد اتجاهاتها!
(4)
** آمنت الحكومات الشيوعية المتعاقبة منذ«لينين» بأن«الحزب» هو الوريثُ الأوحد لحقوق الشعب والقائم على إدارة شؤونِه والتخطيط لمستقبله.. وكان حريصاً - خلال«سبعة عقود»- على النفخ في أبواقِ الإعلام ليصبح«لينين»- كما وصف الصادق النَّيهوم - رحمه الله - في مقام«الأنبياء».. والحزب في منزلة«العقيدة»..!
** جاء«غورباتشوف» - رغم مافيه - وحطّم سور التعتيم والتكميم، واكتشف الناس أن ما قيل عن«التنمية» زيف، وما أشيع عن«القوة» وهم، وما رسم عن«تطورٍ» زراعي - صناعي - رعوي - إسكاني - إداري كذب مركب..!
** أيقن الجميع أن«الحقيقة» أطلّت.. و»الإصلاح» تحتّم.. وأن«الخدعة» الكبيرة قد كشفت..!
(5)
** ربما كان«المتنبي» - في دلالته الرمزية المعنوية - و»الاتحاد السوفيتي» - في دلالته المباشرة المادية - مثالين مُهميّن لما يُخفق في صنعه«جور» التشويه و«زيف» التطبيل.. وهما المسؤولان عن خللِ السلوكِ«الجمعي»، وقصور الأداء«المدني»..!
** مؤخراً بدأ الحوار في الإنترنت والفضائيات وبعض الصحف حول شخصيات تاريخية عامة.. من مثل«شيخ الإسلام ابن تيمية» و»الشيخ محمد عبد الوهاب».. وغيرهما.. وعادت إلينا دلالتا«المتنبي» و«الاتحاد السوفيتي» بين من رفعوهما إلى مرتبة«ذوي العزم من الرسل»، ومن أنزلوهما إلى درجة الأدنى من البشر.. وما كان«ليرضيهما» أو«يضيرهما».. بقدر ما يُسهم«العلميُّون» في تكريس ممارسة بعض«الإعلاميين» الذين يحيلون - بكلماتهم - القمة إلى انحدار.. والانكسار إلى انتصار..!
(6)
** تنبعُ الممارسات«الإلغائية» مثلما«التنزيهية» من يقينٍ غريب بأن«المجتمع» لا ينقسمُ إلا على«اثنين».. أو إلى فئتين:«رشيدة» و«ضالة».. أي أننا أمام«الرمز» أو«المفهوم» أو«الممارسة» إما«محقون» أو«مخطئون».. ولا ثالث لهما.. أو بينهما..!
**«عقل» تحاكمه«عاطفة» تقترب بمفترقي القضايا الفكرية من جماهير المدرجات الذين لا يجتمع في«قلوبهم» و»سلوكهم» الإعجاب والتصالح مع فريقين متنافسين..!
** ومثلما«المتنبي» في نظر«المشيدين» و«الشائنين» فإن الحكم على«معاوية» و»ابن تيمية» و»محمد بن عبد الوهاب» و»حسن البنا» و»سيد قطب» و»جمال عبد الناصر» و»الإخوان» و«التحريريين» و«التبليغيين» و»حماس» و«الجهاد» وغيرهم وغيرها مقصورٌ على غالٍ في مدحه أو مغالٍ في قدحه.. أي بين مَنْ يسعى لإبراز«الشخص» أو«التنظيم» ومن يحاولُ وأدهما..!
(7)
**«تناقض» كان يمكن أن يكون مقبولاً لو انطلقت المعادلة من أرضية«حق مقابل حق» وليس حقاً يواجه باطلاً.. فلكل فهمه ومرتكزاته، وفيما عدا«المعصومين» من الرسل فإن كلاً يؤخذ منه ويرد عليه..!
** مللنا زمنَ«الأحزاب» و»الأدلجة» و«الأُحاديّة» و«الانكفاء».. وتكفي«تجربتنا المُرة» فيها خلال عقود الهزيمة التي استطالت حتى فقد «الطُّلعةُ» الأمل، واستطاب«القاعدون» الخلل.. وبقي - أمامنا - صوتُ الحوار الحر المنطلق غير الخائف من وصاية«رقيب».. أو«فوبيا» منغلق.. أو«بوهيميّة» مندلق..!
* الرؤيةُ محاكمة..!