Tuesday 23rd March,200411499العددالثلاثاء 2 ,صفر 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

أحلامٌ في خيالات الشباب أحلامٌ في خيالات الشباب
موسى بن عيسى العويس *

مع مرور الزمن قد تتحول الأحلام إلى حقائق مؤكدة في معتقدات الشعوب وأفكارها، وتستمرئ الخوض في نسيجها ولو تعارضت مع قيمهم، واصطدمت بثوابتهم، وقليل أن نلتفت إلى تغير موقف الإنسان من مشين السلوك، حين يتجاوز مرحلة معينة، وأقل من ذلك محاولتنا استنتاج أسباب الانسياق وراء نزوات النفس وشهواتها، في فترة من فترات العمر. أقول هذا من خلال استقراء عابر لأبياتٍ من الشعر، في معلقة امرئ القيس، حين يقول وهو يبادل محبوبته الغرام في الخيال، بدافع من نزق الصبا، وميعة الشباب:


وبيضة خدرٍ لا يرام خباؤها
تمنّعت من لهوٍ بها غير معجل
تجاوزت أحراساً إليها ومعشرا
علي حراصاً لو يسرون مقتلي
فجئتُ وقد نضّت لنومٍ ثيابها
لدى الستر إلا لبسة المتفضّل
فقالت يمين الله ما لك حيلة
وما إن أرى عنك الغواية تنجلي
فقمتُ بها أمشي تجرّ وراءنا
على إثرينا ذيل مرطٍ مرحّل
هصرتُ بفودي رأسها فتمايلت
عليّ هضيم الكشح ريّا المخلخل

ويستمر في مناغاته لها، والتلاعب في عواطفها، حتى يوهم ذا اللب البسيط الساذج بصدق كلامه، مع أنه يعبّر عما كان يتمناه أو يتخيله في أحلام شبابه من صبابة وهوى.
وبراعة التصوير لديه تبدي الحدث وكأنه واقعٌ حقاً، حتى أنه من فرط المبالغة كان في مغامرةٍ أخرى ظلّ يعدّ القبلات التي طبعها على وجنة محبوبته، حتى وصلت التسع والتسعين، فقال:


فقبلتها تسعا وتسعين قبلةً
وواحدة أيضا وكنتُ على عجل
وعانقتها حتى تقطع جيدها
وحتى مصوص الطوق من جيدها انفصل

صورٌ متكررة في كتب التراث، يبدو فيها الشاب العربي بكل افتخار، يقتحم المخاطر، ويخترق الحواجز، ويروّض الصعاب، ليصل إلى هواه وبغيته دون وجل أو رهبة، ومن غير خوف أو حياء.
وفيما يبدو لي أن هذا التفاخر في كل زمنٍ لا يخرج عن احتمالين: إما لإثبات الذات والقدرة على تخطي الصعاب وتذليلها، وإما لإثبات الظرافة، واكتمال الجسم.
وعبر هذا التخيّل يخادع الشباب النفس بلهوٍ لم تبلغ النفس مداه، أو منعها من ارتياده مانع، كخوف، أو حياء.
وهكذا هي طبيعة بعض البشر في شتى الأزمنة يميلون إلى المبالغة والانحراف والشذوذ، كلون من ألوان التمرد على الواقع، وانعكاس لفراغ نفسي، أو اجتماعي، أو سياسي.
ومن هنا، فإن من الضروري في هذا السياق إبراز الجانب الخلقي لدى العرب، والذي قد لا يأبه به كثيرٌ من القراء، فنحن نقع على قيمٍ خلقية رفيعة في العصور الماضية تبزّ القيم المعاصرة، فأنت ترى القيم العالية استبدلت للأسف بقيمٍ ومبادئ من سقط المتاع، فأصبح بعض الرعاع من الشعراء الشباب يرون التحرش بالفتاة إكرامأ لها، وخداعها بمعسول الأحاديث رفعاً من شأنها وتقديراً لها، ورصد حبائل الفساد لها مهارةً ولباقة، فظلت غائبة عنهم أبيات (عنترة بن شداد العبسي) التي يقول منها:


أغشى فتاة الحيّ عند حليلها
وإذا غزا في الجيش لا أغشاها
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي
حتى تواري جارتي ماواها

وهل أنستنا الأيام موقف القبيلة بأسرها إذا شذّ منها الفرد بتصرفات خلقية مشينة، فيها إساءة لسمعة القبيلة والعشيرة، فيحاول العقلاء ردعه ما وسعهم ذلك بشتى الطرق، وإن تمادى في غيه طردوه, أو خلعوه ولقبوه ب(الخليع) نكاية به، وأعلنوا أمام الملأ إبعاده والتخلي عن تبعاته.
وهاك هذه الصورة التي رسمها (طرفة بن العبد) لنفسه، وقد خُلع في بعض سني حياته، لتماديه في الغي والمجون، فأسقط من الوسط الاجتماعي، ليقول:


وما زال تشرابي الخمور ولذتي
وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها
وأفردتُ إفراد البعير المعبّد

وحتى امرؤ القيس يعترف أن الخنا والفجور أضرّا بسمعته:


لعمرك ما إن ضرني وسط حمير
وأقوالها غير المخيلة والسكر

دعونا نتساءل: هل ظلّ الموقف الاجتماعي من القيم، شريفها ووضيعها على ما كان عليه، أم تبدّل؟
(*) الإدارة العامة للتربية والتعليم بمنطقة الرياض


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved