غالبا ما تكون أي جناية في هذه الحياة، نتيجة لإفرازات سبقت حدوثها، وإذا ما أتينا إلى عالمنا المعاصر فإننا نجده يلتمس الذرائع ويصنعها أحياناً لتبرير ما يقرر المضي فيه سلفاً، ناهيك عن طبيعة هذه الذرائع التي غالباً ما تكون مجرد (كذبة).. وما حرب العراق عنا ببعيد. إذن من المهم جداً ألا نعزل الذرائع عن النتائج مهما كانت خاطئة في نظرنا.
إن مشروع الأوسط الكبير، الذي تبشّر به أمريكا، وتلوح بفرضه في حالة ما إذا لم يلق أذناً صاغية اعتبره مثل (الحرب على العراق) ويتضح ذلك في الذرائع التي حتمت في نظر الأمريكيين فرض مثل هذا المشروع.
لا أريد أن أزاحم المحللين السياسيين في اختصاصهم، ولكني كقارئ وباحث تربوي، أثار اهتمامي ما ورد في تقرير التنمية الإنسانية للعالم العربي 2003م من إطلاقات وعموميات، يتلقفها البعض اليوم على أنها مسلمات، وتتخذها القوى الكبرى ذرائع لتنفيذ مشاريعها التوسعية في المنطقة.
سأتناول (هجرة الكفاءات العربية) كمثال على بعض المآخذ المنهجية على هذا التقرير الذي طار به الجميع فرحاً، وإن كنت لا ادّعي خلوه من أي معلومة مفيدة.
فقد أكد في عام 2003 أن (هجرة الكفاءات عالية التأهيل للغرب تعد من أخطر الظواهر المؤثرة على اكتساب المعرفة في الوطن العربي، وليس في وصفها بالنزيف مغالاة، وبلغت الظاهرة حدوداً هائلة كما تتسارع معدلاتها باطراد ويقدر أنه بحلول العام 1976م كان قد غادر البلدان العربية نحو 23% من المهندسين و5% من الأطباء و15% من جميع حملة الشهادة الأولى من المهجر.)
وتضيف الدراسة أنه: من أصل 300.000 من خريجي المرحلة الجامعية الأولى في العام الدراسي 1995 - 1996م يقدر أن نحو 25% منهم هاجروا الى أمريكا الشمالية ودول السوق الأوروبية وبين عامي 1998م و2000م غادر أكثر من 15.000 طبيب عربي الى الخارج.
وجاء في التقرير أن الخسارة المترتبة على هجرة الكفاءات تحمّل الدول العربية تكلفة إعداد الكفاءات المهاجرة الى البلدان المتقدمة الأغنى مما يمكن اعتباره معونة عكسية، أي دعما من بلدان نامية الى دول الاستقبال الغنية.
هذه الحقائق مؤسفة ومزعجة إلا أن الذي غاب عن تقرير التنمية وما لم يقله ان هذه العقول الغالية والكفاءات المتميزة التي تهاجر من العالم العربي ومن دول العالم الثالث لم يوجد - ولله الحمد - من السعوديين من حذا حذوهم فالكفاءات العلمية في المملكة لم تهاجر ولم تستقر في بلاد الغربة، بل إنها تعلمت في الغرب وعادت للوطن ولم يغرها البقاء هناك، والفضل لله ثم لنظام الحكم في المملكة، فلم يكن النظام السياسي قاسياً وطارداً للكفاءات بل جاذب ومكرم وبالتالي فإن هذه الكفاءات تساهم في رفع مستوى التعليم في المملكة، كما تقود حركة الإصلاح التعليمي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
ولئن كنا نثرب على تقرير الأمم المتحدة نهجها النمطي في إحصاءاتها عن التنمية في العالم فإننا نثمّن لمعديها - أيا كانوا - تحريكها للمياه الراكدة في كثيرٍ من دولنا العربية.
وبالرغم من أننا نفخر اليوم باحتضان وطننا لكفاءاته بخلاف كثيرٍ من الدول العربية فإننا أيضاً لا نملك ميثاقاً خاصاً مع المتغيرات يجعلنا غير آبهين بما يجري حولنا، فباعتقادي أن الأرقام التي أشار اليها تقرير التنمية - مهما قيل عنها - تنذر بالخطر، ونحمد للمملكة ان كان تركيزها دوماً على المواطن في التطوير التنموي، وتوفير عوامل الاستقرار الاجتماعي له.
يقول المقرر الخاص للأمم المتحدة حول الحق في الغذاء سابقاً الدكتور جان زيغلر (سويسري) في كتابه: سادة العالم الجدد: الدولة التي لا توفر لمواطنيها الشعور بالأمان والحد الأدنى من الاستقرار الاجتماعي والمعيشي ومستقبلاً واضح المعالم، ولا تضمن لهم نطاقا متوافقا مع قناعاتهم الأخلاقية، هذه الدولة محكوم عليها بالزوال!!
* عضو مجلس الشورى
فاكس :01/4548339 |