لكل زمان ظواهره وطرائق أهله، كان (الشعر) سيد المواقف، ولسان السلطة ثم سيئت مشاهده، حين جاء الإعلام بكل تنوعاته والسرديات بكل أنواعها، حتى قيل ب(السلطة الرابعة)، و(زمن الرواية)، فيما قيل من قبل:(الشعر ديوان العرب) الأمر الذي قفز بأرباب الكلمة الصحفية من الهواية إلى الاحتراف، ومن الهامش إلى المتن، وما أن فاق الطلب العرض، رعي الهشيم، وسبح البغاث في مجالي النسور.
والنخبويون أو المتنخوبون الذين يلتزمون بالكتابة الدورية المنتظمة في الصحف والمجلات، أو يقدمون البرامج الإذاعية أو التلفازية في الأسبوع مرة أو مرتين، لايجدون بداً من أن يقولوا أو يكتبوا: طوعاً أو كرهاً. وقد تصاب آليات بعضهم بالتعثر، أو يصبح ماء معارفهم غوراً، لأي سبب، فيضطرون إلى الاجترار الممل، والتكرار المخل. والمتلقي الذي اعتاد على الجاهزية، لايفكر بما يعانيه الكاتب الجاد الذي ضُرب له موعد، وأفرغت له صفحة أو بعض صفحة، ليطلع من خلالها على قرائه طلوع البهجة أو طلوع المنون، في موعده الذي لايتقدم عنه ساعة ولايتأخر. والمعاناة تتضاعف حين يعيش الكاتب تحت رقابات متعددة: مجتمعية أو سياسية أو دينية أو نسقية ثقافية. فالمجتمع بكل ما يعج به من مؤسسات منظورة: شرعية أو تطوعية، أو غير منظورة، يكاد يكره الكاتب أو المتحدث على لزوم ما لايلزم. وبعض فِئام من الناس صنعت ذهنياتها على غير هدى ولا كتاب منير، مما يجعل رقابة بعضها تسلطات متعنتة، تحمل على كتم الحق مخافة الأذية.
وإذ يكون الكاتب في عيون المتابعين في مستوى معين: موضوعياً، وموقفياً، ومعرفياً، يكون عليه ألا يفقد درجة من هذا المستوى. والمحافظة على المكتسب أضعف الإيمان. وكان على المتلقي أن يتصور نفسه، وقد أصيب بوعكة صحية، أو امتلأ وقته بمناسبة فرح أو ترح، أو مر بظروف يكثر فيها اللغط، وتستحكم فيها الخلطة الملهية عن كل مكرمة، أو تتضاعف فيها المجاملات والمداراة، ثم لم يشعر إلا بهاتف المسؤول، يستعجله المقال لقرب موعده. وكيف يتمكن الكاتب الذي يحترم مطبوعته وقارئه، وهو واقع تحت طائلة المشاغل، من تجهيز مقاله المناسب في موعده المحدد، وفي مستواه الذي يريد؟ ولاسيما إذا كان في وسط لايحسب للوقت أدنى قيمة، ولايعرف كم يبذل الكتبة الجادون من جهد ووقت وطول قراءة، لكي يتمخضوا عما يرضيهم، ويحفظ مكانتهم عند قرائهم. ومجتمعات الفضول يفاجئك بعض أفرادها في ذروة اشتغالك وانشغالك بزورة غير مشروعة، بحيث لايستأذن في لقاء، ولايتخول فرصة فراغ، ولاتكون الزورة غبّاً، ولاينتشر إذا طعم. وقد يهاتفك في عوراتك الثلاث، فيطيل الحديث، ثم لايقول شيئاً. وكيف لايضيق الجاد بالفضوليين، ورسول الهدى قد أسعفه الذكر الحكيم، حين وجه بالانتشار بعد الفراغ من الطعام، وحين روضه باصطبار نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي. وما طردهم، ولاتعجل بالانصراف عنهم إلا لمهمات دعوية، حتى لقد عبس وتولى حين داهمه (ابن أم مكتوم) وهو يستدرج صناديد قريش للإسلام. وقليل من الناس من يعرف أدب المجالس ويتخلق به. والموزَّعُ المسؤوليات يود لو فرغ لنفسه ولأهله الذين لهم عليه حقوق كثيرة، لم يف بأقلها تحت وابل المساءلات، والمسؤوليات، وطوفان الفضول. ومع أن مجالسة الرجال لاتمل، إلا أن خير جليس في الزمان كتاب، وخلوة التأمل والاسترخاء المستجم خير من شد الأعصاب ولو بحضرة الأحباب.
وسمني ما شئت: سميناً أو ذا ورم، نخبوياً أو متنخوباً، فلقد بقيت ذات (عيد) طوال أيامه الحوافل، أستقبل وأودع، وبقي من حولي في جيئة وذهاب، لإحضار وجبة، أو لرفع أخرى. وفي أعقابه تفرقت بأولادي الأودية والشعاب في رحلات خلوية، وظلت الجريدة تطحن كتابها، فهي على موعد مع قرائها في مطلع كل يوم، وهي الأحرص على إمتاعهم واستمالتهم وإقناعهم، ولايتأتى لها شيء من ذلك، حتى تحلب المفكرين والساسة والأدباء أشطرهم، وتقدمه قولاً ممتعاً ومفيداً للقارئين. وهي كما كتابها في عناء وشقاء، فعن يمينها وشمالها من يباريها، كما الخيل تباري الأعنة في لزز التنافس. وكيف لها أن تنام بمقلتيها، ومن حولها عجلان ينتهب الخطى؟. وكم شكوت إلى ذي مروءة ما أعانيه، ولكن (كلنا في الهم شرق)، ومهما عدونا فإننا لن نسبق ظلنا.
وما أن لملم العيد ما عاد به علينا من أحبة، وما تأبطه من عوارض، إن أمطرت، فستمطر كسفاً من السماء، وما أن تداعى الكافة على مدنهم وقراهم للعمل أو للدراسة أو لانتظار ما لا يأتي، خوى البيت على عروشه، وخلا من زائريه، وقامت السكينة مقام الضجة، يومها أحسست أنَّ من حق نفسي عليَّ أن أُروح عنها، فهي تمل وتكل، مثلما تمل الأجسام. ومع أن هم الأعمال المؤجلة يعكر صفو السياحة، إلا أنني مصر على الترويح واللهو البريء، وكيف لا، والرسول -صلى الله عليه وسلم - يقول عن الأنصار: (يعجبهم اللهو)، وهو قد أخذ بيد عائشة يوم العيد لتنظر معه إلى (الأحباش) وهم (يزفنون) في المسجد. وهو بأبي وأمي، قد اضطجع مستدبراً جويريات -لسن بالمغنيات- يضربن الدف في بيت الصغيرة المدللة، الأمر الذي تمعر معه وجه أبي بكر، وصاح بهن: -أَمزمار الشيطان في بيت رسول الله، مما حمل رسول الهدى على نهيه عن نهرهن، معللاً ذلك بأن اليوم يوم عيد، وكأني بمزمار الشيطان يباح في يوم العيد، فلو لم يكن الغناء من مزامير الشيطان لما أقر الرسول -صلى الله عليه وسلم- قول أبي بكر، والفقهاء بارعون في التأصيل الشرعي واستنباط الأحكام ومع كل ذلك فأنا أعرف حدود ما أنزل الله في أمر اللهو المباح والمحظور، ولست ممن يسعى لشرعنة الفسق والفجور الذي تفيض به المشاهد كافة، ولست مع الذين يميلون كل الميل إلى سد الذرائع، وتحريم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، تاركين الحقوق المشروعة كالمعلقة. ف(المتصوفة) أو طائفة منهم، جعلوا الغناء جزءاً من العبادة، فيما توسع (الظاهريون) في إباحته، وكرد فعل لهؤلاء وأولئك جاءت طائفة من الورعين فحرمته على الإطلاق، ولم تستثنِ، وضرب العامة بكل هذه الأقاويل عُرْض الحائط، وشرعنوا لأنفسهم ما يريدون، وبين هذا وذاك ضاع الحق الصراح.
ولما لم أكن حفياً بهذا الخلط العجيب، توخيت الوسطية في كل شيء، مبتغياً بين ذلك سبيلاً، وأعني بالوسطية (العدل) و(الاستقامة)، والفضيلة وسط بين رذيلتين، ومع ذلك ف(لا اجتهاد مع النص القطعي الدلالة والثبوت)، وليست الوسطية ما يتداوله العامة، إنها صفة عموم وليست خصوصية حدث. ولكي أنال قسطي من الراحة، تركت المسؤوليات خلف ظهري، وأتحت للتنائف ان تتهاداني مع رفقة لاتقل مشاغلها عن مشاغلي، ولكنها أصرت على استدبار الجد واستقبال الفراغ. وانطلقنا ترفعُنا النجاد، وتحطنا الوهاد، نقضي كل لباناتنا بأنفسنا، لانرقب زوجة ولا خادمة ولا ابناً باراً. نعجن ونخبز، ونحتطب، ونسقي لأنفسنا ولا يسقي لنا أحد، ننام في العراء، ونستضيء باللهب، ونصطلي على فاكهة الشتاء (ومن يرد أكل الفواكه شاتياً فليصطلي)، ونحسو قراح الماء، والماء بارد. ونحقق سكن الليل ومعاش النهار، وإذ بورك لأمة محمد في بكورها، فإن الناس في بيوتهم وأسواقهم ومدارسهم ومكاتبهم، يَدَعُون ذلك لسوارح الكلاب وأسراب الطيور. ولما كانت أرض الله آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، في زمن الفتن العمياء، فقد ذرعنا فضاء الله، كما لو كنا موكلين به، ومن كتبت عليه أكيال مشاها، وحين تقضت لبانات كثيرة:
(أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
وسالت بأعناق المطي الأباطح) |
وتمنيت لو كان بالإمكان ذرع فجاج الأرض على صهوات الجياد أو على ظهور الإبل.
وبعد أيام مرت كلمح بالبصر، عدت متلكئاً، فالأعمال لاتنجز نفسها، ولكنها تترصد، وتتربص، حتى إذا عاد إليها الشجي تكاثرت من حوله كما:
(تكاثرت الضباء على خراش
فما يدري خراش مايصيد) |
وقلت في نفسي: إنها راحة ساعة، وشقاء دهر، وعند الصباح يضرب النائمون كفاً بكف. والاتكاليون من ينعمون بما أترفوا فيه، والمنبتُّون من لايروحون عن قلوبهم. وبين المترف والمنبت ضاعت مثمنات كثيرة.
وكيف يتأتى لمثلي حفظ التوازن، ثم لاتتكدس الأعمال والمطبوعات من حوله بشكل لاقبل له باحتماله. لقد كنت حفياً باستعراض المطبوعات اليومية والأسبوعية والشهرية وما يُهدى من كتب: إبداعية أو نقدية أو تحقيقية، ولما أن عدت إليها وجدتها كورق الخريف تغشى مسارح النظر. ولك ان تتصور إنساناً تمر به كل يوم عشرات المطبوعات، بحيث لايجد بداً من استعراضها والتقاط ما ينقصه أو يلائمه منها، ثم غاب عنها أسبوعاً أو أكثر، وعاد، وكان عليه أن يفليها، منقباً عن لذعة أو لسعة أو لدغة أو نادرة هنا أو هناك، أو متابعاً لفيوض الآراء والتعليقات والتحليلات في مختلف القضايا والمعارف والأحداث، ولاسيما في زمن رديء، تداعت فيه الأمم على مثمنات الحضارة، وأعانها عليها متأمركون أو متفرنسون، يقعدون مع المتسهزئين والخالفين.
وفوق ذلك فإن النقاد لايغفل بعضهم عن بعض، فهم أبداً في عراك مستحر، فمشاهدهم لاتعمر إلا بالفرضيات وافتعال الخلافات، ولهذا يتعمدون الإثارة، مثلما يفعل شعراء النقائض، بإغراء واستدراج من الخلفاء الذين يودون تلهية الناس بالهجاء وتسليتهم بالمذكرين والقصاص. والصحف اليوم تفعل فعل الخلفاء من قبل، ولكل زمان وسائله وآلياته ورجاله، ودعك من استطلاعات الرأي التي يبدهك بها خلي عن أتفه الأشياء، ومن إجراء المقابلات المكرورة المملة، ومن أخذ الانطباعات والتصريحات عن كل مناسبة، فهي تنتابك عبر كل وسائل الاتصال المتاحة، ومن وراء ذلك كتب يفتري أصحابها الكذب لتسليعها، حتى إذ امتلأت جيوبهم من لعاعات الدنيا، وتلطخت سمعتهم من التكذيب والتجهيل بادروا المشهد بلعبة صبيانية أخرى. والمتابعون لفيوض القول في شر مستطير، فهم بين منشَّئِين في الحلية، ومستفزين في الآراء، وخليين من كل معرفة، أغرموا بدس الأنوف في كل شيء، يتحدث أحدهم عن الدين والسياسة والاقتصاد وكل الظواهر والمبادئ والقضايا، ويحضر المناسبات بزي عربي، يحاول به أن يخرق الأرض او يبلغ الجبال طولاً، يكتب مع الكاتبين، ويخوض مع الخائضين، فيما يهم، ومالا يهم، وما يتصوره ومالا يتصوره، يكتب القصة والرواية والقصيدة: مغالبة أو استكراهاً، ويخط بيمينه النقد بشقيه: التنظيري والتطبيقي، وينشئ المشاريع، ويشرعن للتفاهات، ويقايض ويقارض، يمدح ليمدح، ويشهد ليشهد له، ويعين ليعان، ويعطي ليأخذ، وكأنه الكل في الكل، وماهو إلا القطمير أو الهباء المنثور.
ولو تجاوزت المشاهد المعهودة، وتسلقت محاريب (الانترنت) لرأيت العجب العجاب، فبعض أصحاب المواقع كالقرد المقَّفص في حديقة، يمر به الفارغون الذين يتفننون في إثارته، حتى تخور قواه، ويلوذ بالصمت. لقد جاءني بالأوراق المسحوبة من المواقع من لم أزود، فقرأت فيها المضحكات المبكيات، فالمتوقع يسأل عن كل شيء، ثم لايتحرج من الإجابة عن كل شيء، ومع الضربات الموجعة تراه متشامخاً متورماً، يغرس يده في تراب أبجدياته السرابية، يحثوه يمنة ويسرة، وكأنه يملك عصى موسى، وطب عيسى، وبلاغة محمد. لقد كدت أتسلل خجلاً مما أرى، ومما أسمع، فكل متورم يرى أنه ابن بجدة العلوم والمعارف وحذامها. وإذا كان الغرب ينتج الآلة للاستفادة والإفادة فإننا نستهلكها للعبث والإثارة، وبئست المهنة، وبئس الممتهن. والرحلات الخلوية التي يستجم بها المثقلون بالأعمال لم تعد قادرة على استعادة الراحة، فالإشكالية لم تكن من تكاثر المسؤوليات، ولكنها من طوفان الغثائيات. ولا أحسبنا قادرين على الرشد في زمن لاتسمع فيه إلا الجهر بالسوء، من ظلم، وممن بطش بالأبرياء العزل بطش الجبارين، وكل ألدٍّ في الخصام على ثغر إعلامي، يتجشأ من فراغ، وقد امتلأتْ نفسُه حقداً وضغينةً على مَنْ آتاه الله من فضله.
|