الجولة في بساتين اللغة العربية تمنحك متعة أية متعة، وتزيل عنك ما قد يصيبك من الملل، وضيق الصدر، واستثقال الجلوس حينما تكون فارغاً من عمل، بعيداً عن أخ أو صديق تجاذبه أطراف الحديث. وهاأنذا أدعوك هنا دعوة الى جولة قصيرة في جانب من جوانب بساتين اللغة الخضراء الفسيحة، يرافقنا فيها المثل العربي الذي يقول: (إنك خير من تفاريق العصا).
كانت هنالك امرأة اعرابية ظريفة اسمها (غَنيَّة) وكان لها ابن شديد العَرامة (الشراسة والشدَّة)، كثير الإساءة الى الناس، مع ضعف في جسمه ودقة في عظامه، فواثب مرَّة فتى من الأعراب فقطع أنفه، فأخذت غَنيَّة دية أنف ابنها فحسُنَت حالها بعد فقر مدقع.
ثم واثب ابنها فتى آخر فقطع أذنه، فأخذت الدية فزادت حالتها حُسناً، ثم واثب بعد ذلك آخر فقطع شفته فأخذت ديتها، فلما رأت ما قد صار لها من الإبل والغنم والمتاع والكسب بجوارح ابنها حَسُنَ رأيها فيه، فمدحته بأرجوزة قالت فيها:
أَحْلِفُ بِالْمَرْوَةِ يَوْمًا وَالصَّفَا
أَنَّكَ خَيْرٌ مِنْ تفَارِيقِ الْعَصَا |
وأقول: إن الحلف بالمخلوق لا يجوز، فحلفها هنا بالمروة والصفا غير جائز وإنما يحلف الانسان بربه ، أما (تفاريق العصا) فهي من العبارات الجامعة، ذات الدلالات المتعددة والمعاني الكثيرة، وهذا مما اهتدت اليه الاعرابية من بلاغة الكلام الجامعة المانعة، واليك البيان:
سئل ابن الأعرابي (أحد علماء اللغة الكبار) عن هذه التفاريق فقال: العصا تُقطَّع ساجوراً (وهي الخشبة التي توضع في عنق الكلب)، وتقطَّع عصا الساجور فتصير أوتاداً، ويفرَّق الوتدُ فيصير كلُّ قطعة منه شِظاظاً (وهو العود الذي يدخل في عروة القربة أو الدَّلو أو الجالوق)، فإذا كان رأس الشظاظ كالفلكةِ صار للبُختيِّ (الجمل) مِهاراً، والمِهارُ هو العود الذي يُدخَلُ في أنف البعير، وإذا فُرِّق المهارُ جاءت منه تواد (وهي جمع تَوْديةٍ، وهي خشبات تُصَرُّ بها أخلاف الناقة لئلا يرضعها الفصيل) وإذا كانت العصا قناة فكل شقة منها قوس بندق يُرمى به، فإن فُرِّقت الشقةُ صارت سهاماً، فإن فرِّقت السهام صارت حِظَاءً (وهي سهامٌ صغار، قال الشاعر الطّرِمَّاح:
فَبيْنَما ذلِكَ هَاجتْ بِهِ
أَكلُبٌ مِثْلُ حِظَاءِ الْغُلَامِ |
فإن فرَّقت الخطوة من هذه الحِظَاء صارت مغازل يُغزَلُ بها الصوف، فإن فُرِّق المِغزَل صاراً شظايا يضعها النجار في شقوق القدح المصدوع حتى يجبرها به، فهي أصلح شيء لذلك، يقول الشاعر:
نوافِذُ أَطْرَافِ الْقَنَا قَدْ شَكَكْنَهُ
كَشَكِّكَ بِالشِّعْبِ الِإنَاءَ الْمُثَلَّمَا |
فإن كانت العصا صحيحة سليمة ففيها منافع كثيرة يكفيك تعبيراً عنها ما ورد في القرآن الكريم من قول موسى ، فهي مآرب كثيرة جداً يطول المقام بحصرها.
لغةٌ غنيَّة، وأعرابيَّة غنيَّة ببلاغة منطقها، وبالمال الذي حصلت عليه من جوارح ابنها الشَّقيّ.
إن للجولة في بساتين اللغة من المتعة ما يجعلها جديرةً بدعوتك إليها.
إشارة
لغة يحملها هديُ كتابٍ
صار كنزاً للمعاني أَبديَّا |
|