في الماضي كنا نكره أمريكا لأنها ضد الشعوب ولأنها دولة إمبريالية ولأنها تدعم الحكومات الدكتاتورية. مجموعة لا حصر لها من الأسباب التي تدعو الناس لكره أمريكا. المتأمل في هذه الكراهية سيجد أن معظمها يفتقر للدلالة في ثقافة الناس فهي كلام مثقفين. مَن منا يعرف ما تعني كلمة إمبريالية ومَن منا يعرف دكتاتورية.. كان المثقفون يرددون هذه العبارات لسببين الاول تبيان مساوئ أمريكا والثاني تبيان مقدرة الكاتب على استخدام تعابير أجنبية , وحتى إذا عرف الرجل العادي دلالة هذه الكلمات فإيقاع اللغة يلعب دوراً عظيماً في سحب الحقيقة الكامنة في الكلمة.. عندما يسمع الإنسان الكلمة بلغته الأصلية ستختلف دلالتها عن نفس معنى الكلمة لو قيلت بكلمة أجنبية . عندما نقول حماراً أعزكم الله غير ما نقول (دنكي) فالصوتان يشيران إلى نفس الحيوان ولكن وقعهما على اذن العربي يختلف , وعندما نقول دكتاتوراً فهي تعني المستبد وهناك فرق كبير بين أن تقول هذا دكتاتور وبين أن تقول هذا مستبد, فوقع كلمة مستبد واضح وممتلئ بنماذج وأدلة تاريخية في ثقافة المستمع العربي بخلاف كلمة دكتاتور الحديثة على أذنه. يمكن أن أدّعي أن كراهية أمريكا في الماضي كراهية ثقافية مبنية على عبارات وخطابات لا على تجارب. كان الشيء الوحيد الذي نلمسه من عداوة واشنطن للشعوب ينحصر تقريباً في دعم اليهود في فلسطين ومساندة الحكومات المستبدة من بعيد لبعيد خلافاً لذلك كان العربي في غاية الإعجاب بأمريكا , بل إن بعض العرب ينقل تجربة الشعب الأمريكي العظيمة ويجيّرها لصالح يهود واشنطن الذين تخصصوا في إيذاء الإنسان.
الآن تغيرت الصورة , فبعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتفرد أمريكا بمصائر العالم..(شكرا للمجاهدين الأفغان الذين أسهموا في ذلك) ظهرت أنياب أمريكا في مناطق لم تكن معروفة فيها.. كنا نقرأ في الأخبار أن أمريكا دبرت انقلاباً في تشيلي وأسقطت حاكم الإكوادور وغزت بجيوشها كولومبيا كنا نأخذ الأمر بصورة شرعية.. نعرف أن في تصرفاتها هذه ظلماً ولكنها كانت تصلنا بصورة شعرية. كان يقال لنا إن أمريكا الجنوبية هي الحديقة الخلفية لأمريكا وهذه العبارة الشعرية تلطف القسوة الكامنة وتجعلنا نتعامل معها بعيداً عن مختبر الضمير . كلمة الحديقة الخلفية الشعرية حالت بيننا وبين فهم المآسي التي تواجهها شعوب أمريكا الجنوبية . اليوم لم يعد عالمنا محصناً ضد أمريكا فأمريكا أصبحت جزءاً من منطقتنا وحضورها كحضورنا وأعظم فأصبح من حقها أن تبث قناة تلفزيونية تنافس حكومات المنطقة وشعوبها ومن حقها أن تبرر جرائمها , وهي بذلك لا تختلف كثيراً عن حكومات المنطقة, فالإعلام يستطيع أن يضع لكل جريمة مبرراً أخلاقياً إذا امتلك السيطرة على الناس وتفرد بهم.
في احدى المحاكم برر مجرم قتل عدة أطفال جريمته بقوله : إني قتلت هؤلاء الأطفال لأخلصهم من العالم الظالم الذي ينتظرهم , وأمريكا قتلت مئات الألوف في العراق لتخلصهم من مظالم صدام حسين , وتشجع إسرائيل على قتل الفلسطينيين لأن الفلسطينيين يستحقون حكومة أفضل من حكومة ياسر عرفات .. ويبدو أنها قريباً سوف توزع القتل على بقية العرب لأن العرب يستحقون العدالة والديمقراطية والتنمية, وأمريكا لا تتحرك بدون نموذج فهي التي عيّنت ارستيد بالسبل الديمقراطية والآن تسقطه بالسبل العسكرية لأن الشعب الهايتي يستحق الديمقراطية . لقد قررت أمريكا بعد تفردها بالعالم أن تخرج من الحالة الشعرية إلى الواقع.. جاء دورنا في المنطقة بعد أمريكا الجنوبية.
فاكس 4702164 |