مع بدايات مسيرة الإصلاح التي تشهدها بلادنا وتأسيساً لبوادر المجتمع المدني أعلن قبل أقل من أسبوعين عن إنشاء الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان بعد التنسيق المبدئي مع الجهات المعنية بالحقوق أحكاماً وتنفيذاً وعلاقات دولية ممثلة في وزارات العدل والداخلية والخارجية في المملكة. وبالاطلاع على النظام الأساسي للجمعية الذي شمل عشرين مادة تضمنت أهداف الجمعية واختصاصاتها وطريقة عملها، نجد أن أمام هذه الجمعية تحديات ضخمة لتحقيق غاياتها النبيلة في العمل على حماية الحقوق والتأكد من تنفيذ ما ورد في النظام الأساس للحكم وغيرها من الأهداف والاختصاصات.
وقد صيغ النظام الأساسي للجمعية بطريقة مهنية ماهرة وضبطت مواده بإتقان، إلا أنه بقيت ثغرة ينبغي في تقديري إعارتها ما تستحقه من اهتمام، وهي خلو المواد من التطرق لمسألة انضمام أعضاء جدد إلى الجمعية، رغم أنه تم التطرق لفقدان العضوية في المادة الثامنة عشرة، وتم في المادة الثامنة الإشارة إلى أنه في حالة شغور مكان أي عضو في المجلس التنفيذي يحل محله عضو آخر من نفس الجمعية. وفي هذا المجال ينبغي التأكيد أن يراعى الانضمام للعضوية تمثيله لأطياف المجتمع الفكرية والاجتماعية.
أهم التحديات التي ستواجه هذه الجمعية الناشئة والقائمة على واحد وأربعين عضواً، هو من داخل الجمعية، متمثلاً في القدرة على تغطية الحجم للأعمال التي يتطلبها تحقيق أهدافها وممارسة اختصاصاتها. فهناك عدد كبير لقضايا حقوقية لأفراد ولجماعات وتلقي الشكاوى ومتابعتها، وثمة التأكد من تنفيذ الأنظمة الداخلية في المملكة ومن تنفيذ التزامات المملكة تجاه قضايا حقوق الإنسان، إضافة إلى دراسة المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان الدولية وتقديم الآراء للهيئات الحكومية والأهلية. هذا التحدي الكبير يتطلب مجموعات مساندة ومستشارين وخبراء في كثير من المجالات، إضافة للاستفادة من مكاتب المحاماة والاستشارات القانونية.
بعد مواجهة التحديات الذاتية، ثمة صعوبات جمة أخرى ستتعرض لها الجمعية؛ أولها هو ضعف الوعي الحقوقي في مجتمعاتنا مما يتطلب جهداً مضاعفاً من الجمعية في المشاركة مع مؤسسات عديدة في التوعية الحقوقية وتكوين ثقافة قانونية عبر نشر إصدارات متخصصة وإقامة ندوات وحلقات محلية تعنى بحقوق الإنسان. إن امتلاك ثقافة قانونية يساعد الفرد على إدراك حقوقه ومعرفة أساليب الحصول عليها نظامياً، ويتيح المجال له بالمبادرة والمشاركة في مؤسسات مدنية اجتماعية تدافع عن مصالح المنخرطين فيها. فهناك حقوق كفلها الشرع والأنظمة المدنية، ولكن لا يدرك البعض أن ثمة قوانين تحميهم.. مع أن الإدراك وحده غير كافٍ، بل ينبغي أن يترادف معه سلامة الإجراءات القانونية وصحة تطبيقها.. كذلك من المهم توعية العموم بدور الجمعية واختصاصاتها وقدراتها، فلا يظن أن قراراتها تنفيذية ملزمة كديوان المظالم على سبيل المثال، وعلى العكس لا يظن أن قراراتها هامشية لا قيمة لها، بل هي قرارات ذات صبغة اعتبارية (معنوية، أدبية) تقدم الآراء والمقترحات..
والضعف في الوعي الحقوقي ينتج صعوبة أخرى ستواجه الجمعية في التعامل مع بعض جهات رسمية أو أهلية، خاصة مع مسؤولين قد لا يدركون أهمية الدور التي تلعبه الجمعيات الحقوقية في دعم الاستقرار الاجتماعي ورفع حس المواطنة ودعم الوحدة الوطنية، فالمواطنة بالأساس تستند على الحقوق والواجبات، وفي مجال الحقوق يتشكل المجتمع المدني عبر الحقوق المدنية والحقوق بالمشاركة في الشأن العام والحقوق الاجتماعية (العدالة الاجتماعية). فعلى سبيل المثال قد يعتقد البعض أن مذنباً مداناً لا يستحق من يدافع عنه، ومن ثم لا يتم التجاوب مع ما يمكن أن تقوم به الجمعية في الدفاع عنه، وهذا خلل كبير في إدراك فكرة الحقوق والدفاع عنها.
وهناك صعوبة طبيعية منتظرة في تعامل الجمعية مع الأجهزة الرسمية والأهلية مثلما واجهتها مثيلاتها في الدول الأخرى، تتمثل في أولويات الحقوق حين يتعارض حق مع حق آخر، مثلاً حق التعبير للفرد مقابل حق الحكومة في حفظ النظام. فكما يقول القانونيون (لا يوجد حق مطلق تقريباً)، فلكل حق قيد، والقيود على الحقوق تتضمن عدم انتهاك حقوق الآخرين. ومن ذلك ينتج تصادم وجهات النظر مع بعض الأجهزة الرسمية أو الأهلية مما قد يفضي إلى عدم مساندة أو عدم تعاون تلك الأجهزة مع الجمعية، ما لم يتعامل الطرفان بحصافة وحكمة في إدارة الاختلاف. إضافة لذلك هناك الصعوبة الروتينية المعتادة في عدم سلاسة الإجراءات وتعقدها في بعض الأجهزة مما قد يعطل أو يؤخر كثيراً من أعمال الجمعية ويعرقل تحقيقها لأهدافها، لكن هذه الصعوبة يمكن تذليلها بحنكة وخبرة أعضاء الجمعية في التعامل مع الإجراءات البيروقراطية.
كل هذه التحديات تجعلنا نتوقع من الجمعية أن يكون لها خطط استراتيجية وبرامج عمل وآليات تنفيذ واضحة وسلسة تمكن الأفراد والجماعات من التعاطي مع الجمعية بسهولة وفعالية. كذلك من المأمول أن يتم التأكيد على استقلالية الجمعية، وتمتعها بحرية الحركة والمتابعة وجمع المعلومات ومراجعة الأنظمة وإصدار تقاريرها علانية. ولعل إعلان نائب رئيس الجمعية بأنه سيتم متابعة قضية الذين تم إيقافهم مؤخراً من قبل وزارة الداخلية بخصوص مسألة البيانات، بغض النظر عن التهم الموجهة إليهم، يعد بادرة واعدة من وزارة الداخلية والجمعية في التعامل مع مثل هذه القضايا، وفي صيانة حرية واستقلالية الجمعية..
|