مضت سنوات على دارة الملك عبد العزيز، إدارة واستدارة كمركز وطني أظنه معنياً بتاريخ الوطن المملكة العربية السعودية. أقول هذا لأني لم أجد فيما قرأت من مطبوعات الدارة ما يشير إلى مهمة وهدف الدارة. لكن ما ترسخ في المخيلة هو مفهومي بالمركز الوطني أنه أرشيف تاريخي وثائقي لحفظ وتوثيق الأحداث والتغيرات على مسار البناء الدستوري للدولة والمجتمع، وحفظ ذلك للأجيال المتلاحقة، دروساً وعظة ومنهج تفكير إنتاجي في تكييف الواقع بما يفيد من ماضي الأجداد وتطوير العصبية التقليدية إلى عصبية مهنية منتجة لفكر متجدد متطور وفق معطيات العصر وثقافة الأجيال الملاحقة، ومتطلبات العصر والتعولم مع المحيط ومداراته الوطنية والعربية والإسلامية والعالمية. فقد توالت على إدارتها شخصيات لها في وجه الوطن مسارب من الجدية والطموح والرغبة في التطوير. سارت الدارة في إدارة أعمالها وفق معطيات اجتهادات تقليدية في الوعي والاستيعاب للغة الواقع المعيش الذي تجاوز في أساليب الطرح والمحاكاة زمن ولغة الإدارة بالخطا والصح، وان ما لقحت ما ضرها البعير. ولهذا فقد ضاع علينا زمن مهدر في الإفادة من تقنيات العلم والمعلومات في شأن الأرشفة والفهرسة والخزن والاسترجاع والتحليل بل والبحث العلمي المنهجي الجاد والانفتاح على العالم المحلي والعالمي. بل لعل المنهج المتبع في محاولة جمع وثائق من هنا وهناك قد ولد الشعور بالحذر والخوف وتبعاً لهذا قلت مصداقية وجدية الرغبة في تسليم أي وثائق، ليس خوفاً وهلعاً من شيء أكثر من الضياع والإخفاء بحكم السرية وخداع بصرية المحافظة والاحتفاظ . ولا يغيب عن البال ازدواجية الحال مع جهات أخرى تمارس نفس العمل كمكتبة الملك عبد العزيز العامة التي تحتل موقعا ملاصقاً للدارة، ناهيك عن الجامعات والكليات وغيرها، ولعل الأكثر تأثيراً هو ما برز منذ سنوات عن وجود وثائق قبل الحكم السعودي، وكان أن اشتري بعض منها وبعض بقي طي الكتمان.
إن كثيراً من وثائق مرحلة التأسيس في كافة أرجاء الوطن مازالت عرضة للأرضة والتراب والضياع والنسيان، في مخازن الدوائر الحكومية، ولدى الأسر التي كان لها أدوار في صناعة التاريخ المحلي على مساحة وساحات الوطن في العهد السعودي وقبله. وبمنتهى الصراحة فقد آثر بعض ممن يحتفظون بوثائق عدم إطلاع الدارة وغيرها لعدة أمور سبق التلميح بها وبقي بعضها لعل من أهمها:
* إخفاء الدارة لكل ما وصل إليها، واطلاق شعار السرية أمام من يرغب الاطلاع دارساً أو صاحب مصلحة أو علاقة. رغم تكرار النفي من الزميل العزيز أمين عام الدارة الدكتور فهد السماري.
* اتباع أسلوب الإغراء المادي للحصول على الوثائق بدلاً من التسويق والتشويق والإعلان عن جائزة العام لمن يقدم وثيقة - وثائق عن تاريخ الوطن كله.
* عدم جدية بل وعدم حيادية البحث العلمي، وتغليب طابع الإعلامي الدعائي الذي لا يليق بمركز بحث علمي ومركز تاريخ وطني.
* قلة الاستفادة من التخصصات العلمية، سواء الابتعاث للدراسة أو الاستقطاب بالتدريب، وبالذات في مجال أعمال الترميم للمخطوطات واستخدامات المحاليل الكيماوية ونظم المعلومات الإدارية والجغرافية وتحديد المواقع.
* التاريخ الشفهي، ولعل التحسر على وفاة شخصيات كان لها أو لآبائها مقامات سامية في العمل الوطني هو ما بقي لنا بعد رحيلهم إلى دارة الآخرة غفر الله لهم ومعهم كم هائل من أحداث وروايات وأخبار تاريخية هامة، ولعل المثال الأقرب الشيخ محمد بن صالح العذل ابن الباشا الرسي النجدي الذي له إسهامات وطنية للأمة كلها والوطن السعودي، وأنا أحمد الله ان كان لي شرف الإسهام في توثيق شهادات عيان وأفعال أبطال ميدان لنخبة من رجال الوطن الذين كانوا عينة عشوائية جميلة في تمثل الوطن في الدفاع عن مقدسات الأمة في فلسطين من الجيش النظامي ومن المتطوعين الذين جاهدوا قبل الجيوش العربية النظامية، وأنا جد سعيد ومتشرف أن قد حولت ذلك التوثيق من الشفاهية إلى الكتابة في كتابي الجيش السعودي في حرب فلسطين 1948م. الذي أدين فيه بكثير من الاعتزاز بالتوجيه والنصح من الأمير سلمان بن عبد العزيز والمساندة من الدارة أميناً وعاملين.
وحتى لا يقال بعدم التطرق إلى الإيجابيات، فلعلي أقول إن الدارة قد توالت على إدارتها شخصيات لها في وجه الوطن مسارب من الجدية والطموح والرغبة في التطوير، وكل قد أسهم بجهد ووعي ربما لم تساعد الظروف المتعددة والتداخلات في الاختصاصات والتنازع في الصلاحيات على بلورة فكر تطويري من أجل الارتقاء وربما كان للذهنية والمرجعية الأكاديمية غياب قد أسهم في غشاوة الصورة والرؤية. لكن مجيء الأمير سلمان بن عبد العزيز رئيساً لمجلس إدارتها وتطعيم المجلس والإدارة بكفاءات ذات تأهيل أكاديمي يفقه في التخطيط وأساليب التحديث والتطوير قد بدل في مسار الدارة فقد وجد لها في مركز الملك عبد العزيز الحضاري موقع واسع وجميل، وتوفرت لها إمكانيات مادية طيبة، لكن لا أظن مسيرتها قد سلمت من العثار، ولا شك عندي أن الإفادة من التقنية قد كانت كبيرة لكن هذا لم يرتق بالأعمال البحثية ولا القدرة على الوصول إلى تكوين خزن استراتيجي للوثائق. ولا أعلم ما الصلة أو العلاقة بين الدارة ودائرة الوثائق في مجلس الوزراء ولا أين مقر الأرشيف المركزي للوثائق أهو بين الجهتين أم لا تزال وزارات المالية والخارجية والدفاع والداخلية كل له مخزن خاص؟ كما أنني أتطلع إلى ان يكون للجمعية التاريخية السعودية دور أوسع في إعادة كتابة تاريخنا الوطني بما يشمل جغرافية المساحة التي تحتلها المملكة العربية السعودية، ففي هذه المساحة مدارات واستدارات لأحداث تاريخية وفكر وحضارة منذ بزوغ فجر الإسلام بل وقبله، وإن الكيان الأساسي الموجود اليوم ليس من الكيانات التي تغفل فهم لغة وفقه وفلسفة التاريخ، فما دار على هذا الحيز الجغرافي هو تاريخ مهم ينبغي توثيقه والعناية به.
* كاتب وأكاديمي سعودي
|