أخذ عليَّ عدد من الإخوة الذين أَكِنُّ لهم المودة والتقدير عبارةً وردت في الحلقة السابقة، وهي:( بدأ تاريخ الرجل الأبيض في أمريكا بمغامرات اتسمت بالعنف)، مشيرين إلى أن هذه العبارة غامضة.
ولعل مما دفعهم إلى ذلك ما يرونه من استخدام بعض أجهزة الإعلام العربية المنزلقة وراء الإعلام الغربي، وبخاصة المتصهين، عبارة (العنف والعنف المتبادل) عند الحديث عما يجري على أرض فلسطين، متجاهلةً الفرق بين محتل يرتكب أبشع الجرائم بمختلف ما أوتي من أدوات البطش ضد شعب شبه أعزل إلا من الإيمان بالله ثم بقضيته ومدافع عن نفسه وعرضه وماله ووطنه.
وكنت أظن أن ما كتبته مباشرة بعد تلك العبارة التي أخذها عليَّ أولئك الإخوة الكرام كاف في إيضاح المراد منها، وهو:( وما ارتكبه المستقرون الجدد في تلك القارة من جرائم ضد سكانها الأصليين تحدث عنه الكثيرون أحاديث موثقة. ومن هؤلاء منير العكش في كتاب: حق التضحية بالآخر).
وما دام ظني لم يكن موفقاً لدى إخوتي الكرام فإني أعتذر إليهم، موافقاً لهم على أن العبارة الأدق هي أن يقال: (إن بداية تاريخ الرجل الأبيض في القارة الأمريكية بدأ بجرائم فظيعة). وكنت قد ذكرت ذلك في مستهل مقالة عنوانها: (مواقف من حرب الغيظ في أفغانستان)، وهي مقالة نشرت بتاريخ 20-8-1422هـ، وأدرجت ضمن كتابي: خواطر حول القضية. قلت فيها: (بدأ تاريخ الأمريكيين المنحدرين من أصل أوروبي في مستقرهم الجديد، أمريكا، بما ارتكبوه ضد السكان المحليين المسمين بالهنود الحمر. وكانت تلك من أسوأ ما دُوِّن في سجل تاريخ الإنسانية كلها).
أما بعد الاستدراك فأقول: لقد أشير في الحلقة السابقة إلى أنه يمكن تناول المشروع الذي تروجه أمريكا باسم الشرق الأوسط الكبير من زاويتين: الأولى أهلية هذا المروِّج للقيام بالإصلاح الذي يدَّعي أنه يريد القيام به، ولا أظن عاقلاً يعتقد أن أمريكا تريد إصلاحاً للأمة الإسلامية، وبخاصة العرب منها. والثانية اختيار المنطقة المحددة لهذا الإصلاح الذي يُدَّعى القيام به، وتوقيت هذا الاختيار. وأُشير -باختصار- إلى أن القيادات الأمريكية المتعاقبة، ابتداءً بالرئيس ولسون المتوفَّى عام 1924م، وانتهاءً بالرئيس الحالي بوش، ظلت مؤيدة للصهاينة المغتصبين لفلسطين وإن اختلفت درجات هذا التأييد لعوامل داخلية وخارجية.
وإذا كان الرئيس بوش الأب -كما ذكر وزير خارجيته بيكر- قد فاق في خدمة إسرائيل كل رؤساء أمريكا الذين سبقوه، فماذا عن ابنه الرئيس الحالي للولايات المتحدة الأمريكية؟
من المعروف لدى الكثيرين أن بوش الابن لم يصل إلى الرئاسة إلا بفارق أصوات لا تتجاوز المئات، وأن من العوامل التي نفخت في صورته للترشيح كونه ابناً لرئيس أمريكي سابق.
وعلى أي حال، فإن الأهم في الموضوع هو موقف الرئيس الأمريكي الحالي من قضايا المسلمين، وفي طليعتها قضية فلسطين. ومن المعروف أن هذا الرئيس ينتمي إلى مَن يُسمَّون المحافظين الجدد، الذين يحتل الدين لديهم مكانة ثابتة من أهم أسسها تأييد إسرائيل المطلق، وتأبى العقيدة الدينية التي يتمسكون بها الا أن تبرز، أحياناً، بانزلاقات ألسنتهم، وأحياناً أخرى بأفعالهم الواضحة.
ولذلك فإن للدين أثراً بارزاً في تحديد مواقفهم العدائية للمسلمين بعامة، وللعرب بخاصة. ومن المؤسف أن يجد المرء من كتَّاب أمتنا مَن يجهل هذا الأمر أو يتجاهله. فإذا دار نقاش حول موقف أمريكا من قضايانا مطَّ شفتيه قائلاً: (مصالح). وهو بهذا القول يعني أن المحرِّك لها هو العالم الاقتصادي فقط.
نعم، إن العامل الاقتصادي مهم، لكن العامل الديني موجود وأساسي لدى المحافظين الجدد بالذات.
بالنسبة لقضية فلسطين، قضية العرب والمسلمين الأولى، قام الرئيس الأمريكي الحالي في دعم الكيان الصهيوني بمختلف الوسائل إلى درجة غير محدودة.
فقد بلغت به الجرأة في هذا الدعم إلى أن وصف رئيس وزراء هذا الكيان، شارون، بأنه رجل سلام، مع أن جرائمه معروفة متواصلة، ومن أبشعها اشتراكه في مسؤولية مذبحة صبرا وشاتيلا الرهيبة. ومنذ أن وصل إلى رئاسة الوزراء في الحكومة الصهيونية لم تتوقف جرائمه الفظيعة المرتكبة بحق الفلسطينيين، إنساناً وأرضاً وتراثاً. بل إن مودة الرئيس بوش للمجرم شارون دفعته إلى أن يأمر المندوب الأمريكي في مجلس الأمن بأن يعارض إدانة الصهاينة على بنائهم جدار الفصل العنصري، الذي التهم كثيراً من الأراضي الفلسطينية التي احتلها أولئك الصهاينة عام 1967م.
وإذا كان ما سبق ذكره شيئاً قليلاً عن المدى الذي وصل إليه دعم الرئيس الأمريكي بوش المباشر للكيان الصهيوني مما يجعله أبعد ما يكون عن المناداة بإصلاح أمتنا الإسلامية, أو المساعدة في إصلاحها، فما مدى دعمه غير المباشر لهذا الكيان، وإن كانت له أهميته القصوى بالنسبة للصهاينة، وضرره الفادح بالنسبة للمسلمين والعرب؟
ذلك ما سوف تشتمل عليه الحلقة القادمة إن شاء الله.
|