Sunday 21st March,200411497العددالأحد 30 ,محرم 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

كَلِمَةُ تَأبين .. وَلَوْ بَعْدَ حين كَلِمَةُ تَأبين .. وَلَوْ بَعْدَ حين

قضيت الصيف الماضي عام 1424هـ في مصائف شمالية (سورية)، أمضيت شطره الأول متنقلاً وبقية الأيام متنفلاً، أفر من حرارة الجو وضوضاء المدن إلى القرى والضواحي وشواهق الجبال، أعتصم بها عن القيظ وألوذ بهدوئها عن الصخب كأنني راهب متبتل انقطعت عن الناس والصحف والأخبار في عزلة اختيارية ارتضيتها بعد تجارب ورضيتها فحمدت العواقب.
ورجعت إلى دمشق فراعني وأنا أراجع بعض الصحف السعودية كلمات التأبين وعبارات التعازي وأبيات الرثاء، يا الله لقد حم القضاء وفجع المجتمع وحزن الجميع ومشت الجموع خلف جنازته تودعه إلى مثواه الأخير بين الدعاء والذكر الحسن والثناء إنه رجل الفضل والمروءة والبذل الشيخ محمد بن صالح بن سلطان.


سارت جنازة كل فضل في الورى
لما ركبت الآلة الحدباء

عرفت الفقيد الكبير ورأيته عن قرب بين عامي 1373هـ و1374هـ تقريباً بالطائف، كان يشغل منصب وكيل وزارة الدفاع، كنت أشاهده يخرج في عصاري الشتاء وعشيّات الصيف من داره الواقعة بحي العزيزية القديم، يقود سيارته بنفسه يتجول فيها بين الضواحي والأحياء والنواحي، يحيي المارة ويحيونه بابتسامة وإشارة منه ولطف، يشاهد الأمطار ويتفقد الأودية ويقف على السدود والآثار يسأل السابلة ويسألونه، يتفاءل بنزول الغيث يبشر به ويسر لرؤيته.
كان رحمه الله في عز شبابه ونضارة هيئته وقوة صحته ومناعة هيبته قد جمع الله له بين حسن الخلق والخُلق، عرف بصلة الرحم وتفقد الأقارب والبذل في مشاريع الخير والسعي فيما ينفع الناس والوطن، فقد ذكر الأستاذ عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف في مقال يرثي فيه الفقيد أنه (في عام 1382هـ اشترى أملاكاً غالية الأثمان وحفر فيها الأبيار ومد شبكات الماء إلى كل منزل ومرفق، وكرر ذلك يوم اتسعت مدينة حريملاء وكبرت وانتشرت فيها المباني وكثرت).. هذه واحدة من أقدم مبراته وقد أتبعها بالكثير من الإسهامات في مشاريع الشركات وتأسيس المستشفيات، ولو ذهبت أعدد إسهاماته وأحصي مشاركاته لما وسعني المجال ولضاق بها المقال. ولكني أكتب الآن وقد مضى على وفاة الفقيد ورحيله أكثر من ستة أشهر، لا تغيب عني صورته ولا يختفي من خاطري ذكره، وصباح يوم السبت 22 محرم 1425هـ كنت أقلب صحيفة الجزيرة فرأيت في قديمها المعاد خبراً نشر في العدد: 350-13-6-1391هـ عن اجتماع الجمعية العمومية لشركة الغاز والتصنيع الأهلية، وفيه صورتان للفقيدين العزيزين عبد الله بن عدوان، ومحمد بن سلطان، قرأت الخبر، وتأملت الصور، وأطلت النظر، فدارت بي الأيام واستدارت بي الذكريات، وسالت من العين دمعة لأني عرفت أولئك الأخيار الكبار، فقد كان لوالدي رحمه الله معهم صداقة حميمة ومحبة أخوية وصلات عائلية، ولأسرتي معهم أيضا لقاءات وتقارب وزيارات.


السامر الحلو قد مر الزمان به
ففرق الشمل سماراً وندمانا

ماذا أقول عن أبي سلطان وماذا أدع، لقد فجع المجتمع برحيله وتبادل الأصدقاء العزاء فيه، كان يحب السعي في حل ما شجر من خلاف، وستر ما ظهر من اختلاف، أذكر أنني قابلته في محلة الفوطة بالرياض عام 1383هـ تقريباً يسير راجلاً يسأل عن منزل أحد الأشخاص المعروفين في الحي، رأيته يلح في السؤال ويلحف في المسألة، يحرص على ذلك ويؤكد، وقد طلب مني أن أدله عليه أو أهديه السبيل إليه، ولما استوضحته عن الأمر قال: إن خلافاً قد نشب بين أشرار صغار أخشى أن يتطور ويكون له عواقب يطال الكبار منها شرر، وإن تدارك الأمر في أوله ودفنه خير من التساهل والإهمال. ولولا سعي أبي سلطان بجاهه ووجاهته وتدخله بثقله وبذله لتفاعل الأمر، وكبر في النفوس، وأحرجت كبرياء أسر وناس، ودخل بعض الكبار بسبب الصغائر في حرج ومأزق، رحم الله العم أبا سلطان وأعلى منزلته في الجنان.
وقبل سنين أخذه الحنين إلى الحجاز، وهزه الشوق إلى مرابع ومراتع، فاشترى موقعاً متميزاً بناحية الهدا بمحافظة الطائف، أقام فيه قصراً منيفاً وحدائق غناء ذات بهجة تطل على مشارف الهدا ومصائف البلد، وحدد يوماً في الأسبوع يلقى به الأصدقاء، يأنس بهم ويسرّ، وقد استمر على ذلك سنوات يكررها في كل موسم صيف، يفرح بالصديق ويرحب بالضيف، يتجاذب أطراف الحديث، ويداعب بعض الأحداث ويسأل عما جد من الحوادث.
علم الله أني ما مررت الآن من جوار بيت أبي سلطان في الهدا، أو منزل الشيخ عبد الله بن عدوان بحي قروى - وكلاهما بالطائف - إلا تراءت بخاطري ذكريات ليالي أنس وأيام مرت كأنها أحلام:


ما راعنا الدهر بالبلوى وغمرتها
لكننا بالإباء المرّ رعناه
إن نحمل الحزن لا شكوى ولا ملل
(موت) الأحبة حزناً ما احتملناه

كنت إذا قدما أذهب لزيارتهما مع أخي وابن عمي محافظ الطائف فهد بن عبد العزيز بن معمر الذي ورث هذه العادة الحسنة عن المرحوم والده الكريم، الذي كان يسر بالقادمين، ويرحب بالمصطافين، ويستقبل في داره ودياره الضيوف كل حين.
هذه كلمة رثاء وذكر وتأبين أثارها رحيل الكبار وفقدان الأخيار أكتبها والدمع في العين والشجا في الحلق والزفرات تتقطع.
عبد الرحمن المعمر
من عصبة الأدباء- الطائف


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved