تطرح الولايات المتحدة الأمريكية مشروع (الشرق الأوسط الكبير) على مجموعة الـ 8 في اللقاء المنتظر في يونيو المقبل وهو المشروع الذي يرتكز على فكرة نشر الديمقراطيات، ودعم الحريات، وتعزيز المجال المعرفي، واقتراح برامج وخطط للتنمية الاقتصادية في المنطقة، ويأتي هذا المشروع نتيجة لقناعة الولايات المتحدة بأن ذلك هو الحل لتجفيف منابع الإرهاب ولضمان مصالح الولايات المتحدة وأمنها.
وتهدف أمريكا من إشراك مجموعة الـ 8 في المشروع إلى خلق تحالف جديد من شأنه أن يعزز فرص نجاح المشروع، وفرص فرضه على دول لم يؤخذ رأيها فيه.
وفي هذه الأثناء، وفي إثر التصريحات المتكررة للإدارة الأمريكية، منذ أحداث 11 سبتمبر، حول ضرورة إصلاح الأوضاع السياسية والثقافية في المنطقة، صدر في بيروت كتاب جديد للدكتور فهد العرابي الحارثي بعنوان أمريكا التي تعلمنا الديمقراطية والعدل وقد جعل المؤلف عنواناً فرعياً للكتاب هو: (تأملات في سلوكات البطل: من الهندي القذر إلى العربي الكريه إرهابياً ماثلاً ومحتملا)، والكتاب مقسم إلى ثلاثة عشر فصلاً وملحقين وكشافين للأعلام والأماكن، ويقع في أربعمائة واثنين وتسعين صفحة (492) من القطع العادي.
****
أشار المؤلف في مقدمة الكتاب إلى بعض ما سماه بالمسلمات التي قلَّما يختلف حولها أحد، ومنها: إن المنطقة العربية تحتاج إلى برنامج طويل من الإصلاحات السياسية والاقتصادية، والثقافية.
ولا يجب التعامل مع فكرة الإصلاحات على أنها، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، دليل بالضرورة، على التقصير أو الإهمال أو عدم الإكتراث، بل إن الصحيح هو أن الإصلاح دينامية وحيوية مستمرة ينبغي أن تكون دائماً نشطة، مهما تعاظم رصيد الأمة في الفلاح والقوة.
كما أن قيم العدل، والحرية، والديمقراطية، هي قيم مليئة بالإغراءات البهيجة، وما من أحد يستطيع أن يقاوم مفاتنها ولذائذها، مُذْ هي مجرد أفكار، إلى أن تصبح ممارسة طبيعية، ومعاشاً يومياً للناس، في أي مكان، وفي أي زمان. والشعوب عموماً تقترب أو تبتعد من، أو عن، مثل هذه المسلمات طبقاً لما يتوافر لها من الحظوظ والفرص.
ثم يقول المؤلف: نحن اليوم، في هذه المنطقة من العالم لنا مشكلة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومع الديمقراطية والعدل عندما يقترنان بها، وهي مشكلة يمكن النظر إليها من خلال مستويات عدة: ومن تلك المستويات أن الولايات المتحدة دأبت، منذ نشوئها، على الاعتقاد بأن قيم العدل والحرية والديمقراطية ما هي إلا قيم أمريكية خالصة.. وبامتياز.. وبمعنى ما فإن الثقافات الأخرى ليست على شيء من كل ذلك، أو أنها إن كانت على شيء من ذلك فهو لا يمكن بحال أن يرقى إلى مستوى المفهومات أو الممارسات الأمريكية في هذا الخصوص.
ذريعة الهيمنة
والولايات المتحدة عندما لا تجد مبرراً عسكرياً، مفتعلاً غالباً، للتوسع والهيمنة فهي تلجأ إلى فكرة الديمقراطية، أو أنها تتذكر فجأة أحد أهدافها النبيلة! في هذا العالم، وهو السعي الدائم إلى تخليص الناس من مظالم أنظمتهم، وهذا بالتحديد ما سمعناه وما نسمعه مؤخراً من مسؤولين أمريكيين في مناسبات مختلفة تجاه الأنظمة التي لا تروق لهم، أو التي تكون قد أدرجت سلفاً على الأجندا الأمريكية الطويلة المفعمة، هي نفسها، بالمظالم وانعدام العدل. ونحن قرأنا في تاريخ الولايات المتحدة، القديم والحديث، أنها في كل تدخلاتها، خارج الحدود الأمريكية، لم يكن هدفها، في أي يوم، نشر الديمقراطية، أو تعميم العدل، أو دعم الحرية.
ويضيف المؤلف: ولقد استعرضنا في بعض فصول الكتاب بعض حروب الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية وأوربا، وأفريقيا، وآسيا، فلاحظنا أن الأهداف الحقيقية التي من أجلها تتحرك الجيوش الأمريكية، كانت دائماً أهدافاً أخرى تخص المصالح السياسية والاقتصادية للولايات المتحدة، ولا شيء غير ذلك. لا، بل إن دولة الديمقراطية والعدل هذه عملت في كثير من الأحيان على الإطاحة بأنظمة منتخبة لأنها تزعجها، أو لأنها لا تراعي مصالحها، أو لا تطيع أوامرها، وقد نصَّبت في مكان تلك الأنظمة ديكتاتوريات عسكرية باطشة لأنها تتعاون معها، ولأنها تساعد على تمكينها من كل ما تريد.. لكل ذلك، نحن في المنطقة العربية، مأخوذون بحلاوة الديمقراطية والإصلاحات، ولكننا مرتابون جداً من اليد الملوثة التي تمتد نحونا وهي تزعم أنها ستمكننا من مفاتيح الفردوس، وخاتم سليمان، وعصا موسى التي ستبتلع الظلام لتلد النور والفجر البهيج!.. وليس هناك من شيء، ولو واحد فقط، يحملنا على الاطمئنان إلى النيات الأمريكية.
التدخل المثبط
ثم يقول: نحن في المنطقة العربية نريد الديمقراطية، ونروم العدل، ونتطلع دائماً إلى أن نكون من ذويهما، ومن المنتسبين إلى بلاطهما، ولكن الإلحاح الأمريكي، أو الدعم الأمريكي، هو المشكلة، فمن هي اليد التي تمتد إلينا ملوحة بمزيد من تلك الديمقراطية ومزيد من ذلك العدل؟!
ويعود المؤلف (في الفصل الثالث) ليؤكد أن التدخل الأمريكي في الإصلاح أصبح أمراً مثبطاً ومعرقلاً، على مستوى القوى الشعبية، أكثر منه دافعاً، أو مشجعاً. وهو تهمة أكثر منه خبرة ونيات طيبة.
ثم يستدرك: وعلى الرغم من كل شيء فلا سبيل إلى التقليل من أهمية الإصلاح وضرورته، فهو السبيل القويم للأنظمة التي تشعر بمسؤولياتها الكبرى تجاه شعوبها. وهو مهم، اليوم تحديداً، لقطع الطريق على من يريدون أن يتخذوا منه طريقاً إلى الوصول لأهداف أخرى لا تصب إلا في مصلحتهم، هم وحدهم. ولابد، في النهاية، أن نتحلى بقدر كبير من الشجاعة لتجاوز مجمل الحساسيات المصاحبة للإصلاح. فالخيار الذي نأخذ به لا ينبغي أن يكون خيار الرضوخ لتلك الحساسيات، والارتهان لمضاعفاتها وهواجسها، والإذعان لما تثيره من مخاوف وحسابات ليست دائماً دقيقة أو صحيحة، فنرجئ، بناء على ذلك، الإصلاحات، لنترك بهذه الطريقة الباب الذي سيدخل إلينا منه الخصوم مشرعاً. إن الثقة بالنفس مهمة، وإن الإصلاحات في حد ذاتها مهمة جداً هي الأخرى.
وبعد أن استوفى المؤلف بعض الملاحظات والهوامش على السياسيات الأمريكية في المنطقة (الفصل الأول) فاعتبر ذلك مدخلاً تمهيدياً لبحثه، قدم للقارئ في (الفصل الثاني) ملامح عن منهجه في قراءة الأحداث الكبرى التي تمر بها المنطقة والعالم، فقال: بما أن هذا البحث يتجه، في الأساس، إلى القارئ العربي، فإن ذلك يقتضي، موضوعياً ومنهجياً، أن ننظر إلى مجمل الأوضاع الدولية الراهنة من حيث علاقتها بما جرى ويجري عندنا أو بسببنا، ولاسيما إذا اقتنعنا فعلاً بأن منطقتنا قد أصبحت اليوم بؤرة الأحداث الكبرى المجلجلة، سواء أنتجتها هي، أو كانت، بالمقابل، هدفاً صريحاً لها.
تنمية الإرهاب
ويضيف: لقد زاد في حجم الاهتمام بهذه المنطقة مؤخراً، ورفع من مستوى التركيز عليها، فجعلها محوراً للمتغيرات التي طرأت على العالم كله، ومرتكزاً للمستجدات التي أثرت بالغ الأثر في مسيرته، (وهي مازالت تؤثر) الجريمة الإرهابية التي حدثت في 11 سبتمبر، واستهدفت الولايات المتحدة الأمريكية، ملحقة أبلغ الأضرار المادية والبشرية بالعاصمتين السياسية والاقتصادية للقوة الأعظم (واشنطن ونيويورك) وما كان لتلك الجريمة أن تبقى مجرد حدثٍ محلي، يخص الأمريكيين وحدهم، بل إن طبيعة تكوينها (العناصر والأفكار الأهداف) جعلت من تلك الجريمة حدثاً عربياً أيضاً من جهة، باعتبار أن المنفذين كانوا من العرب، وجعلت منها أيضاً حدثاً دولياً، لأنها كشفت عن الحجم الحقيقي لخطر ماحق، من شأنه أن يهدد أمن الجميع، ومن شأنه أن يضع السلام العالمي كله على حافة الخطر، ونعني الإرهاب.
وبناء عليه فقد تحولت المنطقة العربية إلى نقطة ساخنة، مفتوحة لمختلف أنواع التحديات والصراعات والحروب، فأصبح أي تغيير أو تطوير أو تحوير في النظام العالمي بكامله، أو، على الأقل، في ما يخص الإصلاحات التي تحتاج إليها بعض البلدان المتهمة بتنمية الإرهاب، لابد له أن يمر عبر السياقات التي خلّفتها أحداث 11 سبتمبر ومن خلالها. فإعادة ترتيب العالم، وإصلاحه، وتخليصه من أمراضه، تبدأ من هنا، فصار العرب (أو المسلمون) هم الهدف أولاً، وهم الوسيلة ثانياً. هم الهدف لمشروع التغيير والإصلاح في ذاتهم، وهم الوسيلة، من بعد ذلك، وكما تريد أمريكا، إلى إعادة ترتيب العالم وفق المنظور الأمريكي الخاص، بحيث يؤدي ذلك إلى العودة بقوة إلى العقيدة الأمريكية القديمة، في ضرورة أن تقود الولايات المتحدة العالم، أو بتعبير أدق تهيمن عليه بكامله، رضي من رضي، وغضب من غضب. وفي النتيجة فقد فتحت أحداث 11 سبتمبر حقل خيارات واسع أمام الولايات المتحدة للمضي في دعم وتأكيد سيادتها على العالم، وهيمنتها على مستقبله.
السياسة الانفرادية
ثم يقول المؤلف: إن الباحث هنا سعودي وعربي ومسلم، وهو بناء عليه، من أقرب الأقربين للظى تلك الأحداث، ولتفاعلاتها المختلفة، ولاسيما فوق ساحته المحلية والإقليمية، قبل الدولية. وهو سيقرأ نتائج أحداث 11 سبتمبر من هذا المنطلق، معيداً بعض الأفكار إلى جذورها التاريخية أو السياسية أو الثقافية أو الموضوعية. ومن المتعذر فهم الكثير مما يجري في العالم اليوم دون العودة إلى الجذور البائسة التي اقتلعها الزلزال العنيف من عمق الأرض، ثم جعلها عارية للشمس، ذلك الزلزال الذي أطلق يد الولايات المتحدة في عالم اليوم، لتؤكد تقاليد السياسة الإنفرادية العنيدة كما وصفها بوش مؤخراً للرئيس الفرنسي جاك شيراك، فالولايات المتحدة هي التي تقرر الحرب وتقرر السلم، وهي التي تختار المكان، وهي التي تحدد الزمان، وهي التي ترسم الإيقاع المطلوب لنظام العلاقات الدولية، وهي التي ستدخل إلى ذلك النظام الأخيار المنضبطين، وستخرج منه الأشرار الذي يهددون أمن العالم!!
أكد المؤلف (في الفصل الأول) أن العالم العربي، ونتيجة لما يواجهه من العقوبات والاعتداءات والتهديدات، فقد بلغ من الإنهاك والاختلال ما ردّه الآن إلى أسوأ ظروفه السياسية والاقتصادية، مما لم يشهد له مثيلاً في كل تاريخه الحديث أو القديم. وذلك لم يكن يعني سوى شيء واحد، وهو تحقيق أهم أهداف إسرائيل، بأن يصل محيطها العربي إلى ما وصل إليه اليوم من الضعف والخور والتردي، والأجيال العربية تعلم يقيناً أن ذلك إنما يتم بمباركة ودعم من أمريكا ذاتها. وهكذا تستطيع إسرائيل، من خلال عملائها في واشنطن، أن تُقصي الولايات المتحدة عن موقعها المحتمل في وجدان العالم بما تبدو عليه من غطرسة وبطش وإنفراد بتقرير مصير الكوكب. كما إنها - أي إسرائيل - تستطيع أن تقصي الولايات المتحدة أيضاً عن أي فرص ممكنة للتقارب مع العرب (والمسلمين) وهم مَنْ كانوا، من أوائل المفتونين بمنجزها الحضاري والثقافي، لتصبح هكذا رهينة ذليلة للصهيونية، بعد أن فقدت كل صلة منصفة لها بالآخرين.
تقاطع المصالح
إن الهيمنة الأمريكية، بهذا الاندفاع المحموم، وهذا الهيجان المتغطرس، مهما تعددت تفسيراتها، فإنه يصعب أن تكون في منأى عن التطلعات أو الطموحات الصهيونية، المسكونة بروح الانتقام، والمستندة إلى المستوى المتردي لفكرة انعدام الثقة في المستقبل، ما لم يكن ذلك المستقبل تحت سيطرتها المطلقة، دون غيرها، وما لم يكن مرتهناً في قبضتها الحديدية هي، وليس أي أحد سواها.
ومن منظور آخر فإن تقاطع المصالح الإسرائيلية مع الأمريكية أمر يُعد من السهل جداً إدراكه. فإسرائيل لا تتوقف عن لعب الدور الذي حدده لها مؤسسها الروحي ثيودر هرتزل، وهو أن تكون حصناً متقدماً للحضارة الغربية في مواجهة بربرية الشرق. وبرنامج إسرائيل هو تفكيك الدول المجاورة من النيل إلى الفرات بمقتضى ما جاء في نشرة كيفونيم الصادرة عن المنظمة الصهيونية العالمية. وليس هناك أفضل من ذلك ليلتقي مع أطماع السيطرة العالمية للولايات المتحدة ولا سيما في النقطة الأكثر حساسية لحدود الامبراطورية الأمريكية، وهي منطقة الخليج العربي، حيث توجد أغنى منابع النفط الذي سيظل عصب التنمية الغربية لعدة قرون قادمة.
إن الخليج، في النتيجة، هو أكبر مستودع للاحتياطات النفطية، وبالتالي فهو نقطة مفصلية في أمر السيطرة على العالم، وكيسجنر هو صاحب نظرية تفتيت المنطقة وتقسيم دولها، وتقاسم خيراتها، وتجزئة الحلول السلمية بينها وبين إسرائيل، لضمان السيطرة الكاملة عليها، وبالتالي السيطرة على العالم. ويقول كيسنجر: المصلحة القومية تكمن في مقاومة جهود أي قوة تريد الهيمنة على آسيا، وينبغي أن تكون أمريكا مستعدة للقيام بذلك من دون حلفاء إذا لزم الأمر. وهذا هو ما يحدث اليوم بالفعل، فأمريكا تقوم بغزواتها المظفرة في المنطقة، دون حاجة إلى حلفاء (عدا بريطانيا واستراليا!)، ودون حاجة إلى شرعية تسوغ لها فعلها.
الخطاب الانفعالي
يتحدث المؤلف عن ظروف المواجهة بين العرب والغرب (الفصل الثاني) فيقول: إن الخطاب المناقض الصادر من العرب، باتجاه الغرب، لا ينتمي، في نظر الغرب نفسه، إلى خلاف في الأفكار، وهو ليس مجرد تعبير متوخى، أو متوقع، يصدر، في العادة، نتيجة تنوع في الأيديولوجيا أو تعدد في الثقافة، كما كان يظن في السابق، بل هو، وكما عبرت أحداث 11 سبتمبر، خطاب عدائي ينتمي إلى عقيدة أصيلة، ظلامية، منغلقة، تبطل أي فرص للتعايش بين الطرفين!!
وفي مواجهة هذه الحملات، لا السعوديين، ولا العرب عموماً، استطاعوا أن يضعوا أمام الرأي العام الأمريكي البديل القوي المؤثر.
فالبديلُ إما أنه كان خجولاً، متردداً، ضعيفاً، وبالتالي غيرَ مؤثر، فلم يكتب له أيُّ لون من ألوان الصمود، في وجه الأمواج الهادرة العاصفة، التي احتكرت بالفعل عقول الناس خلال هذه الأزمة. أو أنه - أي البديل - كان انفعالياً، دعائياً، ليس على شيء من الرصانة المنهجية، وهو يقترض من الخطابين، الثوري والإسلامي، أسوأ ما فيهما من إنشاء وخطابية، دون الولوج إلى عمق الخلافات والاختلافات، فالغرب هو مجرد الامبرياليةُ المقيتة، وهو المستأثرُ بخيرات الأرض كلها، وهو الذي يعمل على زيادةِ الفجوة بين أغنياءِ الغرب وفقراءِ الشرق، وهو المتطلع إلى مزيد من الهيمنة على مقدرات الشعوب ومصائرها. والغرب هو المؤامرة والغزو الفكري. والغربُ هو ذلك الشرير الأرعن، الممتلئُ بالمفاسد والموبقات، الذي يريد أن ينشر رذائله وانحلالاته بين الناس في كل مكان، فهو في عبارة واحدة: الشيطان الأكبر الذي تجب مقاومته دائماً.
والخطابان، الثوري والإسلامي، قد تتضمن أحياناً ما يوحي بالغبطة حيال ما حدث في أمريكا في 11 سبتمبر، بل إنهما قد لا يخفيان روح التشفي، تجاه الأنف المتغطرس الباغي الذي تمرغ في التراب.
الخلط بين الإرهاب والمقاومة
ويشير المؤلف إلى أن أول خطوة في ترميم الصورة الأمريكية في المنطقة العربية والعالم الإسلامي، إن كان لابد لتلك الصورة أن ترمم (الفصل الثالث)، هو أن يحس المسلم العادي، في كل بلاد المسلمين، إن أمريكا ليست ضد الإسلام، ولا يكفي لهذا، أن يخرج الرئيس الأمريكي أو بعض معاونيه بتصريحات صحفية، منقطعة عن أي مواقف إيجابية صلبة وجلية وراسخة من حضارة الإسلام، يرددون فيها، بعبارات باردة ومنهكة بألوان من الدبلوماسيات الفجة، أنهم ليسوا ضد الإسلام، وأنهم يقدرون هذا الدين، ويعترفون بإسهاماته في بناء الحضارة البشرية على مر التاريخ. لا يكفي هذا أمام ما يقرأ الناس أو يسمعون عما تبيِّته السياسات الأمريكية لمستقبل الإسلام والمسلمين، ابتداء من التدخلات السافرة في شئونهم، وغزو أراضيهم أو احتلالها، وانتهاء بإعادة ترتيب الأفكار فوق الكوكب كله، بما لا يتعارض مع توجهات الولايات المتحدة أو يعرقل أهدافها.
ثم يستعرض المؤلف (في الفصل الرابع) السياسات الانفرادية للولايات المتحدة الأمريكية، وهي السياسات التي تلغي فكرة الشراكة في النظام الدولي التي كانت قائمة قبل الإدارة الحالية. و(في الفصل الخامس) يشرح المؤلف الظروف التي تم فيها استغلال الولايات المتحدة لفكرة التحالف الدولي معها في الحرب على الإرهاب، فهي جعلت من ذلك التحالف غطاء لتحقيق أهداف أخرى تعزز غاية الهيمنة، بعد أن عمدت إلى خلق حالة من الخلط الشديد بين الإرهاب وأنواع المقاومة الوطنية التي كانت هدفاً للسياسات الأمريكية الجديدة، وبالتالي لإسرائيل التي انتظرت طويلاً مثل هذه الحالة التي مكنتها من القضاء على المقومات الأساسية لمستقبل القضية الفلسطينية.
إنهاك البنيات
وقد أشار المؤلف إلى أن الخلط الذي طرأ على مفهوم الإرهاب، وأنواع المقاومة الوطنية، أسهم إلى حد كبير في إضعاف موقف الفلسطينيين، أمريكياً، ودولياً، وبالمقابل فهو أعطى أفضل الفرص لشارون وللآلة العسكرية الإسرائيلية، لكي تعوث فساداً في الأرض المحتلة، ولكي تعطي لنفسها الحق في قتل من تريد من الفلسطينيين، وفي اعتقالهم وسجنهم، وتدمير مزارعهم ومتاجرهم، وهدم بيوتهم فوق رؤوسهم، ثم، قبل ذلك وبعده، إنهاك البنيتين التحتية والفوقية بكاملهما في المدن الفلسطينية، فضلاً عن إذلال القيادة الفلسطينية وحصارها، والتلويح المستمر بطرد عرفات أو حتى قتله. والعالم كله يتفرج على ما يحدث، وأمريكا لا تكتفي بالفرجة، بلى أنها تدعم التصرفات الإسرائيلية، بالتصريحات في وسائل الإعلام، وباستخداماتها للفيتو في مجلس الأمن، وبغير ذلك ممن وسائل الدعم المادي والمعنوي. ويقول المؤلف: لا شك أن هناك حالة نفسية جديدة أوجدتها أحداث 11 سبتمبر، وهي تتمثل في تفاقم الحساسية الخاصة المرعبة تجاه الإرهاب، أو أي شبهة من شبهاتة. والخلط بين الإرهاب والمقاومة لم يعد صعباً بعد فاجعة سبتمبر، ولاسيما إذا كان من يعرف الإرهاب، ويحدد مواصفاته وشروطه وظروفه، هي الولايات المتحدة الأمريكية، التي أصابها ما يشبه البارانويا تجاه الإرهاب. والفلسطينيون هم أجدر الناس، وفق التصور الأمريكي - الإسرائيلي، بأن يُنظر إليهم بوصفهم إرهابيين. وربما يساعد في تسويق الموقف الإسرائيلي - الأمريكي من المقاومة الفلسطينية، على مستوى العالم، كون بعض الفصائل أو التنظيمات الفلسطينية قد ارتكبت بعض الأخطاء الفادحة في عملياتها العسكرية، وأبرز تلك الأخطاء الاستمرار في تنفيذ العمليات الانتحارية فيما وراء الخط الأخضر، مما ليس مقبولاً طبعاً لا أمريكياً ولا دولياً.
ويرى المؤلف إن العالم ينظر إلى تلك التصرفات على أنها أعمال إرهابية، ومن الخطأ أن يفترض العرب أن نظرة غيرهم إلى الإسرائيليين يجب أن تكون متطابقة مع نظرتهم، فهم إذْ يعدون الإسرائيليين محتلين، وبالتالي فهم جميعاً في وضع المحاربين الذين يجوز قتالهم، في الطرقات، والأسواق، والفنادق، والمطاعم، فإن العالم اليوم، بل ومنذ اعترافه بالدولة العبرية، له في تلك المسألة رأي آخر، فالمواطنون الإسرائيليون، وفق ذلك الرأي، هم مواطنون كالآخرين، ولهم الحق في العيش داخل حدود دولتهم في أمان واطمئنان، وأي اعتداء أو قتل أو تفجير يكون هدفه المدنيين، أو تكون ساحته المدن الإسرائيلية فهو إرهاب تجب مقاومته، ولابد من التصدي له واجتثاثه.
استغلال مشاعر الخوف
ولقد تضاعف الإحساس بمثل هذه الأمور في العالم كله، بعد أحداث 11 سبتمبر، ولم يعد لدى أي أحد الاستعداد للأخذ والرد في هذه المسائل، وأصبح من غير المقبول، أمريكيا وعالمياً، أي أعمال يكون ميدانها الشوارع والساحات والمرافق العامة في إسرائيل، ويكون ضحاياها من المدنيين، وفيهم الشيوخ والنساء والأطفال!!
ولم تكتف الإدارة الأمريكية بالاستغلال غير الأمثل للتحالف الدولي في الحرب على الإرهاب، بل هي استغلت أيضاً مشاعر الخوف الفظيع الذي خيم على رؤوس الأمريكيين، وذلك من أجل ابتزاز مواقفهم لدعم سياسات البيت الأبيض ولا سيما فيما يتعلق بسلسلة الحروب اللاشرعية التي بدأها بأفغانستان والعراق (الفصل السابع) والقائمة مازالت حافلة بآخرين. فلم يعد خافياً على أحد بأن الحرب على الإرهاب لم تكن سوى الذريعة التي تختبئ وراءها الدولة الأعظم من أجل اكتمال الهيمنة، بما في ذلك منابع النفط في الخليج من خلال الواقع الذي خلقته في العراق، وهذا مما يؤدي إلى إنهاك المنافسين، ومما يؤدي كذلك إلى خلق واقع التبعية للاقتصاد المركزي (الفصل الثامن) والمكائد الأمريكية قديمة في تاريخ دولة العالم الجديد، فهي جعلت من أمريكا اللاتينية حديقتها الخلفية، وهي ابتلعت، على طريقة الكابتن مورجان، الامبراطوريات المهشمة في أوروبا، وهي هدمت اليابان، وأدخلت يديها في الجيوب الأفريقية، وامتدت ذراعها إلى الفلبين وفيتنام، وهي أخيراً شهدت مصرع الوحش السوفياتي في بداية التسعينيات، بل إنها هي التي هيأت لسقوطه وتهاويه (الفصل التاسع) وهي تتفرد اليوم وحدها بمصير الكوكب، فألغت العالم كله، وامتهنت برلمان الإنسان الذي لم يعد يستطيع أن يؤكد دلالات مسماه (الأمم المتحدة) ولم يعد هناك أبداً ما يدفع الولايات المتحدة التي إخفاء نهجها في سياسات القوة، فهي تقصر اهتماماتها الأولى على دعم تكنولوجيتها العسكرية التي تدفعها إلى المزيد من رعونات التأديب، التي تصل بها في النتيجة إلى كسر شوكة العالم بأسره (الفصل العاشر) ويدعم كل ذلك سياسات الاستعلاء القومي والثقافي التي تظهر في الغالب في شكل المزاعم المتكررة التي تحيط بفكرة موقع أمريكا من وجدان العالم من خلال إشاعة القيم الأمريكية التي ينبغي أن تكون قيماً للعالم كله (الفصل الحادي عشر) تلك القيم التي مرت بأصعب اختبارات لها على طول تاريخ الولايات المتحدة.
رحلة الألم والعذاب
يستعرض المؤلف (في الفصل الثاني عشر) فظاعات القتل الأمريكي داخل أمريكا، وخارج أمريكا: في أفريقيا وأوربا وآسيا، كما يستعرض السياسات الأمريكية الداعمة للقتل ولامتهان حقوق الإنسان، ودعم الديكتاتوريات، والقضاء حتى على الأنظمة المنتخبة كلما احتاج الأمر إلى ذلك، أو كلما رأى الساسة الأمريكيون أن ذلك يخدم مصالحهم. وهذا كله مما يناقض القيم الأمريكية التي تدور العجلة الدعائية اليوم بسرعة فائقة من أجل تسويقها، وجعلها غطاء لكثير من النيات الأخرى، فقد اقترن تاريخ الولايات المتحدة - منذ التأسيس - بسمعة غير حسنة فيما يتعلق بحقوق الإنسان، فقد استخدم العنف والقتل بحق سكان البلاد الأصليين (الهنود) الذين قتل منهم الملايين في مذابح بشعة استخدمت فيها كل وسائل الإبادة، إبتداء من سحق القرى برمتها، وانتهاء بنشر الطاعون وتعقير النساء. وهم لم يحصلوا على الجنسية الأمريكية إلا في العام 1924م، وفي عام 1976م فقط أقر الكونجرس للهنود الحمر بممارسة دياناتهم الخاصة بهم.
يستعرض المؤلف بعد ذلك سجل الولايات المتحدة، بحق الإثنيات والعرقيات، وهو سجل مخزٍ. ومن ذلك العبودية البشعة التي عاناها الأمريكيون الأفارقة، أثناء تجارة الرقيق. وهي طالت عشرات الملايين من الذين جلبوا من القارة السوداء، عن طريق الاختطاف والعنف المسلح. وقد قضى الملايين منهم أثناء المعارك، أو خلال رحلة الألم والعذاب عبر المحيط، أو تحت سياط المالكين، وقسوة أرباب العمل، حيث كانوا يعملون بالسخرة، ويعاملون كالحيوانات. وقد استمرت سياسية التمييز العنصري المعززة بالقانون، حتى أواسط الستينيات من القرن العشرين، إذ ألغيت التشريعات العنصرية (مارتن لوثر كنج) في تلك المرحلة، إذ أقر الكونغرس القوانين والتشريعات التي تنهي التفرقة، وتؤكد عدالة توزيع الفرص المتساوية لجميع الأمريكيين، فتم تحريم الفصل في التعليم، والإسكان الحكومي وغيرها من أنواع الخدمات، وأتيح حق التصويت للسود، غير أن هؤلاء، في واقع الأمر، مازالوا يعانون التمييز في الوظائف والأجور، وتعسف رجال الأمن، وتحيز القضاء. ويحصل 30% من السود الأمريكيين، و20% من الأسبان الأمريكيين، على رواتب أقل من الخط الرسمي للفقر. ويقبع في السجون الأمريكية من السود 3000 شخص من أصل كل 100.000 أسود ذكر. وما تزال العنصرية قضية ساخنة، ولا سيما عندما يستغل بعض السياسيين هذه القضايا، والمخاوف، ومشاعر القلق.
تدخلات أمريكية سافرة
ومن الدراسات المشهورة تلك التي أجراها مختص أكاديمي في حقوق الإنسان في أمريكا اللاتينية، هو لارس شولتز (Lars Schoultz) من جامعة نورث كارولاينا (North Carolina) حول مساعدات الولايات المتحدة لأمريكا اللاتينية. فقد بيّن في دراسته عن وجود علاقة وثيقة جداً بين المساعدات الأمريكية والإساءة إلى حقوق الإنسان في أمريكا اللاتينية. وكان مما قاله: تتدفق المساعدات الأمريكية بصورة غير متكافئة على حكومات أمريكا اللاتينية التي تعذب مواطنيها.. إلى أفظع منتهكي حقوق الإنسان في نصف الكرة الأرضية ذاك. كان ذلك قبل عشرين سنة فقط.
ويستعرض المؤلف علاقة الولايات المتحدة بالليبرالية، ونشر الديمقراطية، واحترام الحريات، فيقول: بأن التاريخ يكشف أمامنا صورة أخرى تقابل الصورة الحسنة التي يتداولها بعض الناس عن الدور الأمريكي فوق الكوكب. ويذكر الصحفي الأمريكي (كندي الأصل) بيتر سكادين في كتابه (الكتاب الأسود للولايات المتحدة الأمريكية)، أن أمريكا كانت تدعم الأنظمة التي نكلت بخصومها أسوأ تنكيل، وكانت ترتكب المجازر الوحشية في حق مواطنيها. فأمريكا - كما يراها بيتر سكادين - كانت تحارب قوى التقدم المتمثلة في الطلاب والنقابيين والصحفيين والمثقفين اليساريين، بل وتحارب حتى الكنيسة ورجال الدين التحريريين. لقد داست الولايات المتحدة - في نظره - على مبادئ الحرية والديمقراطية، خارج الولايات المتحدة، في الهندوراس ونيكاراغوا وغواتيمال والتشيلي وسواها في أمريكا الجنوبية فضلاً عن النشاطات المشبوهة ل CIA في أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا. وقد أثبتت الوثائق التي تم الكشف عنها مؤخراً مدى تورط الولايات المتحدة الأمريكية وجهاز استخباراتها في الانقلابات والاضطرابات التي سادت أمريكا اللاتينية طوال عقدي الستينات والسبعينيات من القرن الماضي، وأن جهازها كان لا يتورع عن التعامل مع تجار المخدرات والمافيا الإجرامية من أجل زعزعة الأنظمة التي لا تعجب الولايات المتحدة.
وفي أوروبا في عام 1933م، في المعاملة مع هتلر، كتب القائم بالأعمال الأمريكي (في برلين) إلى واشنطن: بأن الأمل في ألمانيا يتوقف على الجناح المعتدل! في الحزب الذي يقوده هتلر وهو جناح يخاطب كل الأشخاص المتحضرين والعقلاء (!!) وبما أن ألمانيا لم تهاجم أمريكا (عقب بيرل هاربر) فقد بقيت النظرة إلى النازية دون تغيير.
توافق مع الفاشية
وقد اعتبرت الإدارة الأمريكية، في العام 1937م، أن الفاشية شبه متوافقة مع المصالح الاقتصادية الأمريكية، بما يعني توافقها مع المفهوم الأمريكي للديمقراطية. وفي العام 1922م امتدح السفير الأمريكي في إيطاليا تقدم موسوليني نحو روما، وهو الذي قضى قضاء مبرماً على الديمقراطية في إيطاليا، وقد وصف السفير الأمريكي ذلك ب الثورة الجميلة والشابة، وشرح لإدارته لماذا سيكون الفاشيون العامل الأقوى في الضغط على البلاشفة ومواجهتهم.
ومن ثم تمتعت إيطاليا الفاشية بوضع خاص لدى الإدارة الأمريكية في حينه، وكانت أحد الأنظمة الأولى بالرعاية، ولاسيما فيما يخص تسوية ديون الحرب، ومن ثم الاستثمارات الأمريكية المتدفقة. وفي العام 1933م تحدث روزفلت عن موسوليني ووصفه ب هذا الجنتلمان الإيطالي.. اللطيف.
ويؤكد المؤلف أن من يعرف تاريخ الولايات المتحدة مع الديمقراطية والعدل في العالم كله، ومن يعرف أيضاً تردي مستوى الصورة الذهنية للدولة العظمى في عقل ووجدان العرب والمسلمين، يدرك بأن ذلك لا يشي سوى بفكرة واحدة فقط، وهي أن الولايات المتحدة ستدخل هذه النوايا الحسنة تجاه مستقبل الديمقراطية في المنطقة ضمن حملة العلاقات العامة التي كرست لها ملايين الدولارات من أجل تحسين سمعتها السيئة، فليس هناك ما يدفع إلى الثقة في سلامة نوايا أمريكا، وليس هناك في التاريخ الأمريكي كله ما يؤكد أن الديمقراطية، في خارج الولايات المتحدة، كانت في يوم ما همّا حقيقياً للإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ التأسيس.
ثم يضيف: إننا لا نظن أن التجربة العراقية يمكن لها أن تشجع الذين يضعون المخططات الأمريكية، ويدفعون إلى تنفيذها، على أن يجعلوا تلك التجربة نموذجاً مغرياً للقبول بالتدخلات الأمريكية في أماكن أخرى من العالم. كما لا نعتقد أن دعاوى الإصلاح، والتخلص من الأنظمة الفاسدة، وإنشاء الديمقراطيات، ودعم الحريات، ستظل في كل حين مبررات مقبولة، وذات مصداقية، لتسويغ التدخلات العسكرية الأمريكية.
النوازع الإمبراطورية
وفي مجمل فصول الكتاب يحاول المؤلف أن يظهر أو ينمّي فكرته المركزية (المحورية) وهو التي تدور حول عقيدة الهيمنة الأمريكية التي أتضح أنها، لدى القادة الأمريكيين المتعاقبين، قديمة بقدم الولايات المتحدة نفسها، فهي أصل في الفلسفة التي قام عليها الكيان. وقد اعتبرها الكثيرون من أولئك القادة قدراً محتوماً لبلادهم. وما العمل المستمر المتواصل، من أجل تحقيقها، سوى استجابة ل مباركة الرب. والهدف الذي تختبئ وراءه النوازع الامبراطورية هو أن تفيد الزوايا المظلمة من الكوكب من تجربة العالم الجديد في الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وأن تنهل تلك الزوايا مما تتضمنه مثل هذه المشروعات الخيرة، من قيم للعدل والمساواة، حتى وإن تمّ ذلك في الوقت الذي تتذوق فيه الأقطار المقصودة مرارات الذلّ، تحت القادة الديكتاتوريين الذين تختارهم، أو تدعم وجودهم وبقاءهم، لسوء الصدف، الولايات المتحدة الأمريكية نفسها! وحتى وإن تم ذلك أيضاً نتيجة غزو أو احتلال مباشر، من قبل هذه الأخيرة نفسها! ويذكر المؤلف في مجمل فصول الكتاب شواهد متعددة على عقيدة الهيمنة التي جعلت من الولايات المتحدة الشرطي البغيض الذي يخافه الناس حتماً، ولكنهم لا يحبونه قطعاً. فيذكر أنه، في القديم مثلاً، قال السيناتور هارت بنتون، في خطاب أمام مجلس الشيوخ، في العام 1846م: إن قدر أمريكا الأبدي هو الغزو والتوسع، إنها مثل عصا هارون (يقصد موسى) التي صارت أفعى، ثم ابتلعت كل الحبال. فهكذا ستغزو أمريكا الأراضي، وستضمها إليها، أرضاً بعد أرض. ذلك هو قدرها المتجلِّي. إعطها الوقت، وستجدها تبتلع، كل بضع سنوات، مفازات بوسع معظم ممالك أوروبا. ذلك هو معدل توسعها. أما في العصر الحديث، مثلاً أيضاً، فيرى إيرفينج كرستول، الذي ينحدر من أصل يهودي، أن الوضع الإمبراطوري للولايات المتحدة، فرضته عليها الظروف الدولية، والتطورات التاريخية، وقد استمر ذلك الوضع الإمبراطوري قائماً على الرغم مما تعرضت له السياسة الأمريكية من فشل في فيتنام، أو غيرها. وهو سيستمر كذلك في المستقبل لأن ذلك هو قدرها. وهو يقول بلغة أكثر دقة وصرامة في الكتاب الذي صدر له في 1997م بعنوان (The Emerging American Imperium) أن قيام امبراطورية أمريكية هو أمر يجري بشكل طبيعي، فلا تحتاج المسألة إلى إكراه ويقول: في يوم قريب سيمتلك الشعب الأمريكي وعياً بكونه صار أمة امبراطورية... لقد حصل هذا لأن العالم أراده أن يحدث، مفسراً ذلك بأن قوة عظمى يمكن أن يتطور بها الأمر بالتدريج إلى القيام بمسؤوليات دون أن تكون قد سعت إليها بصورة مسبقة. وهو ينظر إلى أوربا كطرف تابع للولايات المتحدة، ولو أنها تتمتع باستقلال داخلي واسع. أما أمريكا اللاتينية فهو يرى أنها بدأت تعترف بشرعية زعامة الولايات المتحدة عليها، وأنها قد قبلت بأمركة متدرجة ومتنامية لثقافتها الشعبية ونمط حياتها.
التنين الهائج
ويرى المؤلف أن الولايات المتحدة قد حققت إنجازات كبيرة، على مدى تاريخها الطويل، في مجال تحويل عقيدة الهيمنة على العالم إلى واقع ملموس، وهذا يتضح في ثنايا فصول الكتاب المختلفة، وهو يشير، في مرحلة ما، إلى وثيقتين للبنتاجون أكدت ذلك التوجه الذي ينصب على تأكيد عزم الولايات المتحدة منع ظهور أي قوة يمكنها أن تعرقل هدف سيطرتها على العالم. الوثيقة الأولى تحت إدارة بول دي وولفوفيتش، والأخرى تحت إدارة الأميرال جيريميا، نائب رئيس لجنة رئاسة الأركان، وقد ذكرت الوثيقتان: إن الولايات المتحدة، هي الضامن للنظام العالمي، لذلك يجب أن تتصرف باستقلالية في حال وقوع كارثة تتطلب رد فعل سريعاً، أو عندما يصعب تجميع موقف عالمي موحد، وعليها التحرك لمنع تكوين نظام أمني في أوروبا، يمكنه تهديد توازن حلف شمال الأطلنطي، وعليها إذابة ألمانيا واليابان في النظام الجماعي الذي تقوده هي، وعليها إقناع جميع المنافسين المحتملين بعدم ضرورة التطفل للعب دور عالمي أكبر من الذي يلعبونه الآن بالفعل. وللوصول إلى ذلك، يجب عليها الحفاظ على قوتها الهائلة، كما يجب عليها تخليد الهيمنة، عبر إيقاع الهزيمة بأسلوب مدمر، وقوة عسكرية تكفي لردع أي أمة، أو مجموعة من الأمم، عن تحدي إرادة الولايات المتحدة.
ولقد تلقى شركاء الولايات المتحدة ومنافسوها، إبان أفغانستان، وفي أثناء الحرب على العراق، أكبر الصفعات في حمى الهياج الأمريكي، كما تلقت الأمم المتحدة (ومجلس الأمن) أكبر النكسات المريرة في حياتها. ومازلنا نذكر موقف العالم العربي والإسلامي، المسلوب الإرادة، وهو موقف لم يكن ليقوى على فعل أي شيء تجاه ما أرادته أو تريده أمريكا. كما نتذكر أيضاً الموقف الذي وجدت نفسها فيه بعض دول الاتحاد الأوروبي (فرنسا وألمانيا تخصيصاً) وكذلك روسيا والصين، وغيرها من الدول التي لم تستطع أن تفعل أي شيء غير الإكتفاء بإعلان رفضها ومعارضتها (الشفهية) لما يجري، وماذا بيدها أن تفعل أكثر من ذلك في مواجهة هذا التنين الهائج، المدجج بالسلاح إلى أسنانه، كما يقول الفرنسيون.
ملتقى الكراهية
إن عمل أي شيء آخر قد يقتضي المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة، وهذا ما لم تعد تقوى عليه أي قوة أخرى في هذا العالم، فلقد عملت أمريكا، طوال سنوات عمرها، على أن تحقق ما أراده لها صانعوها الأوَّلون، وهو ما ردّده اليوم صامويل هنتغتون وغيره من المنظرين والمفكرين الأمريكيين، من ضرورة الحفاظ على تفوقها العسكري والتكنولوجي، بحيث تتمكن فعلاً من قيادة العالم، أو بالأحرى الهيمنة عليه. ونتيجة للانفتاح الشديد على مشروع الهيمنة أصبح عالم اليوم يلتقي كله حول مزيد من الكراهية لأمريكا. فالبعض يكرهها لقاء ما ترتكب، في حقه أو في حق غيره، من مظالم. والبعض يكرهها لما تتمتع به من استعلاء مقيت، ومن غطرسة وبطش. والبعض الثالث يكرهها إضطغاناً عليها، وغيرة من تصرفاتها، واحتجاجاً على استئثارها وحدها بتقرير مصير الكوكب، وبتحويل مؤسساته ومنظماته، فضلاً عن مفهوماته ومبادئه وقيمه، إلى شأن أمريكي بالدرجة الأولى.
ويخلص المؤلف في النتيجة (الفصل الثالث عشر) إلى أنه كان في إمكان الولايات المتحدة أن تتولى ريادة العالم بدلاً من الهيمنة عليه، وكان في إمكانها أن تقوده بدلاً من أن تقهره وتضطهده. والريادة والقيادة شيئان مختلفان عن الغزو، والاحتلال، والتدخلات العسكرية، والبطش، والاستعلاء. القيادة هي الشراكة بشرف، مع دول العالم وشعوبه، من أجل التقدم، والسلام، والرفاه. والريادة هي المنجز الحضاري الأمريكي الباهر الذي أخذ بألباب الناس في كل أرجاء الأرض، حتى بين صفوف المنافسين، بل حتى داخل بيوت الخصوم التقليديين الذين منهم من قضى نحبه، ومنه من ينتظر.
هذا الكتاب، بحسب مؤلفه، يعتمد على تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية المكتوب ووثائقها الرسمية، ويعتمد على تصريحات كبار المسؤولين فيها، وبياناتهم، وخطبهم، فضلاً عن أقوال وتحليلات المثقفين والأكاديميين الأمريكيين في أمريكا ذاتها وفي غيرها.
|