* الجزيرة - خاص:
قد يقضي كثير من المسلمين اعمارهم وهم يؤدون صلاة الجمعة في جامع بعينه، أو عدة جوامع قليلة بالقرب من منازلهم أو أماكن أعمالهم، أو بسبب ارتباطهم بخطيب معين يجدون في خطبته ما يتطلعون إليه، لكن هل جرب أحدنا أن يؤدي صلاة الجمعة كل أسبوع في جامع؟ هذا ما فعله المواطن الأستاذ صالح بن محمد الشويرخ، فمنذ عام 1419هـ، وهو يصلي الجمعة في جامع لم يصل فيه من قبل بمدينة الرياض، في ماراثون فريد من نوعه وأهدافه، خاصة وأنه يحرص على توثيق اسم الجامع الذي يصلي به كل اسبوع، وموقعه، واسم الخطيب.. حتى بلغ مجموع هذه الجوامع أكثر من 258 جامعاً في عدد كبير من أحياء الرياض حتى الآن.. ومازال يتابع مسيرته.. لكن كيف ولدت هذه الفكرة، وما الفوائد التي تحققت من ورائها؟
******
بدأت فكرة صلاة كل جمعة في جامع من جوامع الرياض، كما يقول الشويرخ، عندما تقدم رجل الأعمال الشيخ عبدالعزيز المقيرن - رحمه الله - لإعادة بناء الجامع القريب من منزلي بحي الوشام (جامع المنصوريات سابقاً) وجامع الشيخ عبدالرزاق عفيفي حالياً، وخلال المدة التي استغرقتها عملية إعادة البناء أصبحت أصلي كل جمعة في جامع، وذلك منذ عام 1419هـ، أي قبل أكثر من خمس سنوات ونصف، وفي بداية التجربة لمست أن لها فوائد عديدة شجعتني على الاستمرار، حتى أنني صليت الجمعة في 258 جامعاً من جوامع الرياض حتى الآن، ولدي النية بمشيئة الله أن استمر على هذه الطريقة، حتى أصلي بجميع جوامع الرياض.
والحقيقة أن للصلاة في عدة جوامع فوائد ومنافع عديدة يستطيع أن يلمسها المسلم، فمن هذه الفوائد أو الأهداف التي يحققها هذا الماراثون او التجوال الأسبوعي - كما يرويها صاحب هذه التجربة - أنها تمنح المصلي فرصة الاستماع الى خطب جديدة من عدة خطباء، يختلفون في اسلوبهم، ونوعية الموضوعات التي يطرحونها في خطبهم، وهو ما يستفيد منه المصلي، كما أن تغيير الجوامع والأئمة كل اسبوع يولد الحماس والنشاط بعيداً عن التكرار والروتين الذي قد يصيب النفس بالملل.
ويضيف الشويرخ: ولا شك أن الدافع الأقوى هو دعوة الله سبحانه وتعالى بأن تشهد لي الأرض يوم القيامة بأنني سجدت لله في أماكن كثيرة، كذلك الاستجابة لامر المصطفى صلى الله عليه وسلم بالإكثار من الخطى إلى المساجد، هذا بالإضافة إلى بعض المنافع، مثل التعرف على جوامع مدينة الرياض، وبالتالي التعرف على جميع أحياء المدينة، واكتشاف أسهل الطرق بينها، ومعرفة مواقع الجهات والمصالح الحكومية، والشركات، والمؤسسات التي كثيراً ما يحتاج إليها المرء في كثير من تعاملاته وأموره.
لكن ما هي أبرز المواقف التي عايشها صاحب التجربة؟ خاصة وهو يحرص على توثيق أسماء الجوامع التي يصلي بها، ومواقعها، وأسماء خطبائها، مما قد يضطره للسؤال عن هذه الأشياء؟
يقول الشويرخ: ما أكثر هذه المواقف، فعندما كنت اسأل المؤذن مثلاً عن اسم الخطيب، اجده يعتقد بأنني أحد موظفي او منسوبي وزارة الشؤون الإسلامية المسؤولين عن صيانة وتأمين احتياجات المساجد، ويعدد لي الطلبات والأشياء التي يحتاجها الجامع من صيانة وترميم وخلافه، بل إن بعضهم قد يرتاب في بداية الأمر قبل أن يتعرف عليّ، كما أذكر ذات مرة عندما سألت المؤذن عن اسم الخطيب، قال لي: من أنت؟ ولما عرفته بنفسي ارتسمت على وجهه ابتسامة كبيرة وهو يقول: أعرف أخوك الضابط سامي الشويرخ جزاه الله ألف خير، فقد ساعدني كثيراً في استعادة سيارتي بعد أيام قليلة من سرقتها، ثم شدد هذا المؤذن على الغداء بعد الصلاة، وحلف بالله أن أقبل دعوته، ومقابل إصراره وحفاوته قبلت دعوته الكريمة شاكراً.
ويضيف الشويرخ: ومن المواقف التي لا تزال عالقة في ذاكرتي، وأثناء صلاتي بأحد الجوامع صعد الخطيب إلى المنبر ثم سلم، لكنه لم يكمل تحية الإسلام، حيث قال: السلام عليكم فقط، ثم جلس، والحقيقة أنني اندهشت من أنه لم يكمل التحية كما ينبغي، فسألت الجالس إلى جواري، لماذا لم يكمل الخطيب تحية الإسلام؟ فقال لي: انتظر وسوف تسمع ما يسرك، وفعلاً خطب عن ظهر قلب خطبة محكمة ومنسقة ومرتبة، تشد السامعين بما فيها من حكم ومواعظ، وأسلوب فصيح بليغ، بارك الله فيه وكثر من أمثاله، ومن هذا الموقف تعلمت ألا اتعجل الحكم على الأشخاص أو الاشياء.
وفي جولة مثل هذه من الطبيعي أن يلتقي صاحبها بأعداد كبيرة من الناس والأشخاص، وأن يتعرض لكثير من المفارقات بعضها لا يخلو من طرافة، وأخرى لا تخلو من حرج، فماذا عن هذه المواقف والمفارقات؟
يقول الشويرخ: ذات مرة عندما سألت خطيب الجامع عن اسمه، سألني عن عملي، ثم قال لي: جامعنا يوجد به جماعة من المحتاجين للصدقة، وان الجمعية تحتاج إلى دعمكم ومساعدتكم، مما وضعني في موقف بالغ الحرج، والتزمت الصمت، وانصرفت، وبالصدفة التقيت ذلك الخطيب مساء نفس اليوم مع رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأحد المراكز التجارية، وفوجئت به يقول لي نحن بانتظارك لا تحرم نفسك الأجر في مساعدة إخوانك المحتاجين.
ويروي الشويرخ عدداً من المفارقات والمواقف الطريفة التي حدثت معه أثناء تجوله بجوامع الرياض، فيقول: من المواقف الطريفة أنني صليت مع الشيخ الدكتور سعد البريك حفظه الله، وقد كان من زملائي، وكانت آخر مرة شاهدته فيها عام 1398م، في جامع المنصوريات بحي الوشام، وكان خطيب الجامع في ذلك الوقت الشيخ الدكتور عبدالعزيز الشهوان رحمه الله، وكان خطيباً مميزاً، أذكر وقتها قال لي سعد البريك: أتمنى أن اصبح مثل الشيخ الشهوان، قلت له: احفظ كتاب الله،وإن شاء الله تصير مثله، وفعلاً تحققت امنيته, وأصبح الشيخ البريك علامة، وتفوق على أستاذه، وعندما انتهت الخطبة عانقني الشيخ البريك بكل ترحاب وتقدير، واسترجعنا معاً بعض ما تبقى في الذاكرة من عهد الزمالة القديمة.
ومن المواقف التي لا أنساها انه عندما دخل الخطيب بأحد الجوامع، ووقف على المنبر، وكنت أجلس في الصف الأمامي، وعندما وقعت عيناه على عيني كأنه استغرب وجودي، لأن هذا الخطيب زميلي في العمل، ولم يحدثني في يوم من الأيام أنه خطيب جمعة، وبعد انتهاء الصلاة تعانقنا وهو في موقف محرج لأنه لم يحدثني سابقاً عن عمله كخطيب، وأذكر ايضاً انني صليت بجامع الشيخ فهد العويضة رحمه الله، وكان معنا في الجامع وبعد الصلاة وهو خارج من الجامع راحت الناس تسلم عليه، وتطلب الصدقة منه، فكان يوزع صدقات يميناً وشمالاً بمبالغ كبيرة على المحتاجين - رحمه الله واسكنه فسيح جناته - ، ولما عرفته بنفسي قال لي: الله يرحم ابوك محمد الشويرخ، فقد كنت أعرفه من تجار الرياض في الصرافة، ثم دعاني لمنزله على الغداء، وقد تشرفت بقبول دعوته الكريمة، وذات مرة قابلت معالي الأمين العام لمجلس الشورى الدكتور حمد البدر سلمه الله، ولما رآني استغرب تواجدي في الجامع، حيث أنني أعمل موظفاً بالمجلس تحت رئاسته، وسألني هل أسكن في هذا الحي؟ قلت له بل أنا كل جمعة أصلي في جامع من جوامع مدينة الرياض لأستفيد من الخطباء، واتعرف على أحياء مدينة الرياض، فطلب مني نسخة من أسماء الجوامع الموجودة بالرياض ومواقعها.
ويستمر الشويرخ في سرد المواقف الطريفة التي شهدها في جوامع الرياض فيقول: هناك جامع صليت به، يعد أسرع جامع في مدينة الرياض، حيث ينتهي من صلاة الجمعة دائماً صيفاً وشتاء الساعة (12) ظهراً، ولما سألت جماعة المسجد عن ذلك، قالوا: اعتدنا على هذا الأسلوب منذ زمن قديم والناس تأتي إلى هذا الجامع لانه ينتهي مبكراً، وهناك موقف غريب شهدته في أحد الجوامع، حيث كان في الجامع أكثرية من الجالية الباكستانية، ولما انتهى الخطيب من الصلاة قام مرة أخرى يترجم خطبته باللغة الأوردية الباكستانية بنفسه، وشعرت أن المصلين الباكستانيين ينتظرون ذلك ولا ينصرفون بعد الصلاة، وفي جامع آخر تأخر الخطيب فتقدم رجل من جماعة المسجد جزاه الله خيراً فقرأ علينا آيات من سورة الكهف، وقام بتفسير بعضها في زمن وجيز، وكانت هذه أقصر خطبة مرت بي.
ويقول الشويرخ: والحقيقة أن الصلاة في عدد كبير من الجوامع اتاح لي فرصة الالتقاء بعدد كبير من العلماء والفضيلة والسعادة، وأذكر انني صليت بجامع الجميح وبعد الصلاة شاهدت رجل الأعمال الشيخ محمد العبدالله الجميح اطال الله في عمره، ثم سلمت عليه ورحب بي وقال: والدك من الرجال الذين نحبهم وله معزة عندنا، ثم عرض عليّ مشاركته في وجبة الغداء او العشاء وفعلاً لبيت دعوته الكريمة، وأذكر أيضاً أنني التقيت الشيخ محمد الرومي مفسر الأحلام المعروف، وكنت أعرفه وأسمع عنه الشيء الكثير، فبعد أن صليت بذلك الجامع سألت المؤذن عن اسم الخطيب، قال لي: اسمه محمد الرومي، فاستبشرت خيراً، وحاولت أن اتذكر بعض أحلامي، ولما انتهت الصلاة سلمت عليه وطلبت منه تفسير بعض الأحلام، ومن محاسن الصدف أنه بعد أسبوع قابلته في منزل خال ابنائي على مأدبة عشاء، ثم توثقت علاقتي به كثيراً، ومن المواقف الطريفة أنني صليت في جامع بحي السويدي، وتعرفت على الخطيب وعرفته باسمي وشكرته على حسن خطبته، وفي المساء ذهبت الى النادي الرياضي، وأنا في المسبح شاهدت ذلك الخطيب، وبدأ ينظر إليّ باستغراب ثم قال لي: يا أخي كأني رأيتك من قبل، قلت له: نعم هذا اليوم في الجامع، فضحك وقال: فعلاً هذه الدنيا مهما كبرت تبقى صغيرة.
ويقترح الشويرخ من خلال تجربته وتجواله بعدد كبير من المساجد وما واجهه من مواقف، عدداً من الاقتراحات والتوصيات، فيقول: حبذا لو قامت وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بكتابة الخطبة، وتتركها على المنبر، وتقرأ تلك الخطبة في حالة عدم حضور الخطيب، حتى لا يكون هناك إحراج للمصلين، كذلك حبذا لو تمت تنفيذ آلية لتفعيل دور جماعة المساجد والجوامع لصيانتها، وعمارتها، وتلبية احتياجاتها، بالتعاون مع الموسرين من سكان الأحياء التي توجد فيها هذه المساجد، ومن المفيد إجراء مراجعة من آن لآخر للجوامع التي تصلى بها الجمعة، حيث إن بعض هذه الجوامع لا تتناسب مع الكثافة السكانية للأحياء التي توجد بها، في حين أن هناك جوامع أكبر وأحدث لا تصلى فيها الجمعة.
|