كنت قد كتبت في كتابي الجيش السعودي في حرب فلسطين 1948م (فلسطين كانت ولا تزال هي أكبر أرض عربية توحد العرب والمسلمون على مر العصور للجهاد من أجلها. ورغم تصدع أرض العرب إلى كيانات منفصلة وحدود مصطنعة، فإن فلسطين هي القلب النابض) وما زلت في مسار التأكيد على هذا، فشواهد التاريخ ومعضلات الواقع المعيش خير آزر وداعم لهذا القول.
لقد مارست السعودية شعباً وقيادة دوراً نضالياً في نصرة فلسطين شعباً وأرضاً، منذ قيام الصراع الصهيوني مع أهل فلسطين وإخوانهم من العرب المسلمين، وبالذات بعد تخلي بريطانيا عن الوصاية (الانتداب الذي مكّن لها وفق اتفاقية سايكس - بيكو) الاستيلاء على فلسطين والإعلان عندئذ عن قيام إسرئيل كياناً عنصرياً غاصباً، مؤيداً بفيلق يهودي من الجيش البريطاني إلى جانب المنظمات اليهودية، ليكون نواة جيش الدفاع الإسرائيلي، لقد تنادى للجهاد من أجل إنقاذ فلسطين المئات من مواطني هذه الأرض المباركة - أرض الحرمين، في الوقت الذي ما زالت الدولة الموحدة حديثاً من أقاليم غالبية شبه الجزيرة العربية في طور التكوين سياسياً، واطراً دستورية لبناء مؤسسات الدولة، إذ كان التداعي للجهاد الذي اعلنته الجامعة العربية في وقت لم يمض على اتحاد السعودية في كيان سياسي سوى ما يقارب عقدين من الزمان (1351هـ) ولم يمض على تكوين الجيش النظامي سوى أقل من هذا الزمن. ومن هذا فقد جاء القرار السياسي بالمشاركة، وتجمعت جحافل من كل المناطق في منطقة الجوف تحت إشراف من الأميرين محمد بن أحمد السديري وعبدالعزيز السديري، لكن يبدو أن تدخلات- ضغوطاً سياسية وغيرها، لم تمكن هؤلاء المتطوعين للجهاد من الدخول إلى أراضي فلسطين.
ومع هذا فقد خرج المئات من السعوديين تطوعاً من لدن أنفسهم للجهاد، دون ارتباط بالدولة، تجاوباً مع دعوة الجامعة العربية، فقد موّن أولئك الرجال الأبطال أنفسهم بالمال والسلاح والعزيمة من أجل النصرة والجهاد.
وساروا على الأقدام والركائب إلى أرض فلسطين من جنوب وغرب وشرق وشمال وكونوا لأنفسهم تنظيماً وقيادةً ضمن فوج الإنقاذ بقيادة المرحوم فوزي القاوقجي، لكنهم سرعان ما تخلصوا منه لأسباب جرى التفصيل فيها في كتابي وفق شهادات بعض من شاركوا في الجهاد بكل البطولة والرجولة والشهامة. وبعد أن قررت الحكومات العربية وقف أعمال الجهاد التطوعي الذي كان محققاً لانتصارات، تجاوب الملك عبدالعزيز رحمه الله مع الرغبة في إشراك الجيوش العربية في الدفاع عن فلسطين وإنقاذها، وصدرت منه الأوامر بمشاركة ثلة من الجيش السعودي إلى جانب الجيش المصري للقتال على الجبهة الجنوبية لفلسطين. وقد عيّن اللواء سعيد الكردي - رحمه الله - قائداً لتلك القوة التي بلغ عدد المشاركين فيها3200 عسكري و120 ضابطاً، وخلفه المرحوم الفريق إبراهيم الطاسان -رحمه الله- ، ودارت المعارك سجالاً بطولياً خاضه أبطال الجيشين المصري والسعودي جنباً إلى جنبٍ.
لقد سال الدم السعودي على أرض فلسطين قبل بدء الحرب النظامية، إذ استشهد العشرات في مدن فلسطين في الضفة الغربية اليوم. ولقد سطّر المرحوم فهد المارك لمحات من البطولة والتضحيات واسماء المعارك والشهداء في كتابه سجل الشرف (1408) أما سجل سير المعارك فهو ما زال مخطوطاً لدى أحد قادة النضال التطوعي في الفوج السعودي المرحوم العميد سعدون حسين الشمري -غفر الله له- ، يحتفظ به ابنه خالد العقيد بالحرس الوطني اليوم. كما أن الكثير من تفاصيل الجهاد قد سجلتها صوتاً وصورةً في شريط لصالح دارة الملك عبدالعزيز وفي كتابي أيضاً، وبرواية كل من اللواء علي بن مانع الذياب اليامي، واللواء حسين بن ناصر العساف والعقيد حامد بن دغيليب أبو ربعة الحربي -حفظهم الله جميعاً-. أما بطولات المشاركين من الجيش السعودي فقد أوضحت شهادات الضباط السعوديين الأبطال الذين سجلت شهاداتهم في كتابي الشيء الكثير من صور الملاحم والإقدام ومنهم الفريق الركن علي ماجد قباني والفريق محمد بن عامر العسيري واللواء إبراهيم المالك وفائز عبدالخالق الاسمري وغيرهم. وقد بلغ عدد شهداء الجيش النظامي 120 شهيداً، وقد أوردت في كتابي أسماء بعضهم، كما أصيب وجرح العشرات واسرت كتيبة بقيت في الأسر تسعة أشهر، وفي كتابي رواية لأحدهم الشيخ عبدالله السرحاني -حفظه الله - لقد استشهد في معركة بيروت إسحاق وحدها قرابة عشرين عسكرياً سعودياً، وغيرها في مواقع غزة وخان يونس ودير البلح ورفح وعلى المنطار والحليقات وتبة الخيش ودير سنيد وغيرها من المواقع على ثرى فلسطين العزيزة -فك الله أسرها-.
لقد كرمت القيادة المصرية الجيش السعودي المشارك في الحرب مع الجيش المصري، فمنحت أوسمة رفيعة لقائدي الجيش السلف اللواء سعيد الكردي والخلف الفريق إبراهيم الطاسان وللضباط وللمتميزين من الجند في الشجاعة والإقدام، كما منحت علم الجيش المصري للجيش السعودي. في هذا الزمن الذي تكالبت فيه قوى الظلم والاستكبار على أهلنا في فلسطين، فإن مشاعر الأمة كلها هي مع الأهل والعشيرة في فلسطين، ومما يسعد أن جذوة النضال
ما زالت متقدة على الساحة الفلسطينية وفي النفوس العربية، ونسأل الله النصر والتمكين، ولقد سعدت بالقرار الرئاسي الذي أصدره الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات -عجل الله له بالنصر- بتاريخ 24-4-2003م بمنح المرحوم فهد المارك وسام القدس تقديراً لدوره التاريخي المشرّف في نصرة فلسطين، وتوثيقه الدور الجهادي التطوعي للسعوديين الذين شكلوا غالبية فوج اليرموك في جيش الإنقاذ العربي بقيادة فوزي القاوقجي الذي انطلق من سوريا تحت قيادة ضابط سوري هو المقدم محمد صفا، ثم كونوا الفوج السعودي في سوريا بعد نهاية الحرب بقيادة ضابط سوري هو المقدم بشير الحواصلي.
وأنا لا اعرف فهد المارك -رحمه الله- إلا معرفة فكرية من خلال ما قرأت من مؤلفاته عن فلسطين فقد كان في ساحات النضال وأنا لم أكن قد ولدت، وهو عندي مؤهل ومستحق لوسام القدس، ويستحق إزاء كل ما قدم كل تقدير واحترام، ولقد أثنيت عليه في كتابي بأنه رجل شهم قيضه الله لتوثيق جهاد المتطوعين السعوديين، كما أنني ما زلت أذكر ما كان يكتبه في اليمامة في الثمانينات الهجرية وأنا في المرحلة المتوسطة عن منظمة فتح. وفي ظني أنه كان له إسهام كبير في مساندة قيامها بدعم من الملك فيصل - رحمه الله-.
كما انني سعيد وفرح بالرسالة المرسلة من دولة رئيس دولة فلسطين السابق السيد محمود عباس الصادرة بتاريخ 10 جمادى الآخرة الموافق 8 آب 2003 الموجهة إلى سعادة السفير بوزارة الخارجية الدكتور عبدالمحسن بن فهد المارك وأبناء الشيخ فهد المارك التي سطّرت الوفاء والإشادة بمناسبة صدور القرار الرئاسي بمنح المرحوم وسام القدس.
والشكر بكل ألوانه مستحق لفخامة الرئيس ودولة رئيس الوزراء، وأنا أشيد أيضاً بالدور الذي قام به سعادة السفير عبدالمحسن المارك وفي ظني أن سيادة سفير فلسطين قد كان له دور في هذا العمل القومي الجميل، وكم كنت أتمنى لو كان هذا الوسام والتقدير قد منح للمرحوم فهد المارك وهو حي، يناضل على كل المستويات من أجل فلسطين. وبهذه المناسبة فأنا اعتقد ان كلا السفيرين المارك وسفير فلسطين يملكان من الفطنة ما يؤهلهما وبالذات السفير الفلسطيني لإبلاغ القيادة الفلسطينية الكريمة عن الدور النضالي المشرّف الذي قام به الجيش السعودي النظامي على جبهة القتال الجنوبية في مصر. ويسعدني أن يكون كتابي مرجعاً قد وضحت فيه الأسماء للشهداء والجرحى والأبطال الذين ما زالوا أحياء كالفريق الركن علي ماجد قباني والفريق محمد بن عامر العسيري واللواء الركن إبراهيم المالك واللواء علي البوري واللواء سليمان الشدوخي واللواء سليمان الفريخ واللواء حسن مستور الزهراني والعمداء فائز عبدالخالق الاسمري وعلي بن سلمان الشهري وعلي بن جاسر الشهري وحمزة عجلان الحازمي وعبدالرحمن بن زايد العمري وحسن علي حلواني وعلي وهبي كردي والعقداء فهد بن محمد العودة وإحسان محمد الزهراني.
والشيخ أديب علي سلامة وعبدالله عوض السرحاني. ومن الأبطال من متطوعي الجهاد اللواء علي مانع ذياب اليامي واللواء حسين بن ناصر العساف والعقيد حامد أبو ربعة الحربي -حفظهم الله جميعاً- رموزاً سعودية للبطولة والفداء والشهامة والرجولة؟ ففي ظني أن هؤلاء مواطنون سعوديون هم في مستوى الاستحقاق والتأهيل والتقدير.
(*) باحث ومستشار إعلامي
|